فيما يلي نص خطبة عيد الأضحى المبارك للإمام المغيب السيد موسى الصدر والتي ألقاها في صور في 12 ـ 12 ـ1975:
أيها اللبنانيون،
من أعماق طوفان الفتنة الهوجاء التي تعصف بالأبصار والبصائر، من لبنان، حيث بدأت ألسنة اللهب تحوّل بقية الإنسان فيه الى الفحم والرماد أو الى الشرارة، وتقلع أمواج الدماء البريئة جذور الإيمان والقيم من النفوس ومن البلاد، إرتفعت ستائر الدخان والأحقاد حتى غطت جبين الثمر ووجه السماء، فإذا بمهبط الرسالات معرج العقول، منطلق الإنسانية وملتقى القيم الحضارية غابة من دون أفياء، تتحرك فيها وحوش كاسرة لتقضي على الأخضر واليابس، ثم تنظر إليها أعين الآخرين مندهشة محرقة، تحس أنّ الوحش يتسرب إليها، أو يهربون من الساحة، مفضلين اللامبالاة كما القطيع يقدّم بعضه الى المذبح والبقية ترتع.
في هذا الليل المدلهمّ يرسل الأضحى والميلاد، ثم الغدير، خيوطاً من نور الأمل، أمام عيون بلادي (..) تتلمس جروحها البالغة بأصابعها الممتدة الرقيقة..
نوافذ كالفجر يطل من خلالها التاريخ والسماء، وينفتح أمامنا أفق آخر يختطف من ساعاتنا السوداء لحظات قصيرة.
الأضحى يتقدم ويبشر بالميلاد المجيد، يعقبه الغدير.. يبارك السعي، ويخلق الأمل، ويضمن النجاح، وكل يقدّم وقائع وفلسفة ومثالاً.
ها هو إبراهيم، أبو الأنبياء وسيد الموحدين، وقد بلغ به الكبر واشتعل الرأس شيبا، يمشي منحنياً يأخذ يد ولده الوحيد لكي يقدّمه قرباناً لأمر الله، يقدّمه برضاه ووعيه لنجاة أمته، على رغم جروحه العميقة منهم ومن أصنامهم، وعلى رغم ظلم ذوي القربى، يمشي ويتقدّم ويتخطى كل سموّ، فيصل الى الخلود يوم المتقين، ويواكبه المليارات من البشر، يحمل كلٌ منهم في عنقه وفي نفسه دينه.
كل منهم يقصد أرضه حتى يعيش المناخ الإبراهيمي، ويلتحق بموكبه ولأجل ذلك نراهم يأتونه رجالاً وعلى كل ضامر يأتونه من كل فج عميق، تاركين وراءهم بلادهم وراحتهم وأهلهم وملابسهم وعاداتهم وأموالهم.
إنها قافلة الموحدين، أولئك الذين لا يعبدون مع الله إلهاً آخر فيتمردون على آلهة الأرض، ولا يرتضون عبادة الذات.
إنهم بناة الحضارة، وخدام الإنسانية، وحَمَلة العلم والرسالة، يرفعون عجلة التاريخ نحو الأمام ويملأون العالم نوراً وخيراً وسعادة.
إبراهيم يمشي، يواكبه أولئك العارفون الذين يملأون وادي منى، ويرافقهم جميع الذين يعيشون التحرك بقلوبهم وإرادتهم منذ أيامه حتى أبد الدهر ونهاية التاريخ.
القافلة الإبراهيمية تسير حاملة كل ما تملك من مال أو جهد أو روح، واضعة إياها في خدمة الإنسان، كل إنسان. إنها القافلة الكبرى في التاريخ ترحل من أرض الإثبات والتفرق والخلافات، الى سماء التضحيات، الى عبادة الله، الى خدمة الناس. رحلة دائمة لا تنقطع حول قلب هو أول بيت وُضع للناس.
ويأتي ـ هذه السنة ـ الميلاد المجيد على الأثر بذكراه المدهشة حياة تعدم في نشأتها أحلام الطغاة ومطامع المستأثرين، وتخلّد في نهايتها انتصار المؤمنين والمستضعفين، ولادة لأجل الفداء ووجود للعناء في الآخرين، شعاع الخلود في عالم الزوال، سلام يرفض الإستسلام لسدنة الهيكل وحماة الظالمين، ويقترن بالحرب الأبدية لخدمة المظلومين.
كلمة الله تتجسد وتجسد في ولادتها الرفض، لزمت المجتمع في عقائده وعاداته ومفاهيمه وتحمّل في استمرارها مقاييس جديدة تتغلب على التغلب، وتحبب المنبوذين، وتبارك في نهايتها المذنبين والخاطئين، وتفتح باب العودة للبائسين والمنحرفين.
ومع كل ميلاد، تشرق في قلوب المليارات من البشر نجمة البشارة والأمل بمجد الله، وتبعث السعادة على الأرض والمسرة الى القلوب.
ثم نشاهد في الأفق الغدير يجرّ أذيال المجد، يحمل رسالة التفاني في خدمة الأمة، مستنكراً أن يقال لأحد أمير المؤمنين وهو لا يشاركهم في مكاره الدهر، قائلاً: "لئن أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة لما فعلت".
والآن أيها اللبنانيون،
يا أبناء هذه القافلة الإنسانية الخالدة..
يا طليعة الموكب الذي درست من تاريخها وفي مواقفها وفي تعايشها أسس السير، حتى أصبحت هذه القواعد وحدها تميّز حضارتهم وسبب وجودهم ورسالة وطنهم.
والآن، يا أيها اللبنانيون.. الى أين نذهب؟ الى أبشع النهايات.. لماذا؟ نجيب حتماً أولاً وثانياً وثالثاً.. وعاشراً، الحقيقة أنّ الغضب يجيب عنا.. فلنرجع لكي نسأل من جديد الى أين نذهب؟
إنّ التجربة الحاضرة تجيب عنا في وضوح.
لقد قطعنا قسماً من الطريق، وأصبح في إمكاننا أن نعرف النهاية بالمقارنة مع هذا القسم الذي قطعناه، لقد تراجعنا في وضوح، سلكنا خلال هذه الفترة مسافة بعيدة في اتجاه معاكس مئة في المئة.
ماذا عملنا بأنفسنا وبوطننا وبأمجادنا التاريخية وسمعتنا أمام العالم؟
ماذا عملنا بمستقبل أولادنا؟
بل ماذا عملنا بحاضر أولادنا وهم يشهدون جرائمنا البشعة؟ ماذا يقول أولادنا غداً عندما يذكرون الأحداث ويقرأون التاريخ؟ ماذا نقول للعالم، لرفاقنا في الخارج، لأصدقائنا؟ كيف ينظر إلينا العالم، وكيف يعاملنا غداً في مجالات الديبلوماسية والثقافة والإقتصاد؟ بل كيف نشترك في المؤتمرات ونتعاون في سبيل الإنسان؟ مَن الرابح حتى الآن؟
هل الذين حكمنا عليهم ونفّذنا أحكامنا الجائرة من دون محاكمة كانوا يستحقون هذه المجازاة؟
وفوق كل هذا، هل يليق بنا وبوطننا هذا السلوك؟
لقد كنا رجال الكلمة، حَمَلة الحرف، بناة الحضارات، معمّري البلاد، بلد الجامعات، وطن التعايش، مختبر الثقافات، بوابة الشرق، مدخل الغرب، محور القارات الثلاث، كنا نقف مع كل حق في العالم، كنا نرفض التصنيف بين الناس، كنا نرفض الإنحياز وسياسة المحاور.
أين وصلنا؟
مهما قلنا في الجواب لا يرضي ضمائرنا، فكيف بالآخرين؟!
هل كان خطف واحد من أهلنا يبيح خطف عشرة أو أكثر من أبرياء لا ذنب لهم إلاّ هوياتهم التي فرضتها عليهم مصادفات الخلق وقوانين البلاد؟
لقد جرى ما جرى وسكتنا. لم نستنكر. أخفينا المجرمين.. حتى أولئك الذين أباحوا حرمة المقدسات.. وعدنا بتسليمهم فأخلفنا.. وتصاعدت ردود الفعل، وعظمت الجرائم، وبقي السكوت، وعدم الإستنكار، والإخفاء والتمييع.
كل الذي جرى ويجري نستمر في العناد. نتصرف كأنّ شيئاً لم يكن.. نحافظ على عاداتنا، على عقليتنا، على أسلوب حكمنا، نتهم الآخرين ونحمل مسؤولية الأحداث كل شيء، وكل شخص، وكل دولة.. ونتبرأ نحن من مسؤولياتنا.. بعض الدول العربية هي المسؤولة!! الشعب مسؤول!! الدول الكبرى هي التي تتصارع على أرضنا!! الفلسطينيون هم السبب! اليسار الدولي يفتك بنا!! أما نحن فإننا أطهر من الطاهر!!
وبعد كل الذي جرى ويجري، نعتبر أي تعديل في المجتمع تخريباً، وأي تصحيح للأوضاع هو انتصار لفئة وهزيمة لفئة، حتى لو كان لمصلحة الوطن!!
وبعد كل الذي جرى ويجري، نرفض النصيحة ونستمر في الغباوة والعناد، ونستمر في الأساليب البالية لكل عمل، عدا القتل الذي نطوره ونعتمد آخر الأساليب الحديثة.
أيها اللبنانيون..
إنّ الصديق، أي صديق في العالم، لا يتمكن من إنقاذنا إلاّ بمساعدتنا. كما لا تتمكن أية قوة في العالم أن تطعننا إلاّ بمساعدتنا.
إذاً، فلنتوجه الى أنفسنا أولاً من أجل الخروج من الأزمة، ثانياً وهذا هو الأهم.
إنّ القادة قد ثبت عجزهم من إنقاذنا إلاّ بمساعدة الشعب لهم، والواقع الأليم أثبت ذلك ويؤكد كل يوم، فتعالَوا ننتقل خلال أيامنا المباركة الى مواقعنا في الموكب الإنساني الخالد بإصلاح أنفسنا وباستلهام المناسبات.
تعالَوا نرحم البلد وأطفاله، نرحم الأبرياء والمستقبل، نضمن مصير الخائفين، ونمسح جروح المصابين، ونتطلع الى الأفق البعيد.