أجرت مجلة "المجاهد" الجزائریة هذا الحوار مع الامام السید موسی الصدر في فترة تواجده في الجزائر للمشارکة في الملتقی السابع للتعرف علی الفکر الإسلامي الذي انعقد في مدینة "تیزی اوزو" بتاریخ 10 الی 22 تموز/ یولیو 1973. قدم الإمام فی هذا الملتقی بحثا تحت عنوان "روح الشریعة الإسلامیة و واقع التشریع في العالم الإسلامي" وتمت مناقشته من قبل الأعضاء.
كان الامام موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي الأعلى، في طليعة العلماء الذين نالوا تقدير وإعجاب المشاركين في الملتقى السابع للتعرف على الفكر الاسلامي، وذلك عائد الى عقليته المتفتحة المرنة، ورؤيته الواقعية المتطورة كما يبدو من خلال عروضه ومناقشاته.
وقد رأينا أن نقدم لقرائنا الأعزاء بعض آراء السيد الصدر في العديد من القضايا العربية والاسلامية، فأجرينا معه الحديث التالي:
* قلتم بأن تعدد المذاهب في الاسلام ثراء له، لكن المناقشات التي أعقبت محاضرتكم أوحت بأن هذا التعدد ربما كان مصدر شقاق وخلاف حاد فما قولكم؟ وما مصير الجهود التي بذلت لتوحيد المذاهب؟
- إن البحث في هذا اليوم (ثاني أيام الملتقى) والنقاش الذي جرى في أعقابه لم يكونا مذهبيين إطلاقاً، بل كانا إسلاميين. أما حديث المذاهب الاسلامية، ففي الحقيقة إنها تشتمل على وجهين:
أولهما: الشعائر الاسلامية، ونقصد بها الأحكام التي تنعكس على مظاهر الفرد والجماعة. وبما أن الاختلاف في الشعائر يبرز الأمة الواحدة بصورة مختلفة، ويشتت الأمة ويضعف كيانها، خاصة وأن حملة الشعائر في الأغلب هم عامة الناس الذين يتأثرون تأثراً بالغاً بالخلافات الشكلية.. فلا شك أن الواجب الاسلامي يتطلب بذل الجهد لتوحيد هذه الشعائر، رغم تفاوت الآراء الفقهية. وإنني أؤكد أن توحيد هذه الشعائر أمر ممكن. وقد قدمت بشأنه اقتراحاً مدروساً، في مؤتمر مجمع البحوث الاسلامية بالقاهرة، كما أن الكثير من العلماء قاموا، ويقومون بجهد مشكور في هذا السبيل.
أما الوجه الثاني وهو الفقه الاسلامي والأفكار الاسلامية، وسائر تعاليم الاسلام، فإن هذا التراث الكبير نتيجة جهد مضنٍ، قرين بالمنافسة المجنِّدة للطاقات، بذله آلاف من فقهاء الاسلام وعلمائه، خلال التاريخ، ولا يمكن تجاهل هذا التراث الغني الكبير، أو القضاء عليه لمجرد شعار توحيد المذاهب، سيما وأن التفاوت في الرأي على هذا الصعيد، وهو الصعيد اللاجماهيري - إذا صح التعبير - ليس مضراً ولا مفرقاً، بل لقد كان ولم يزل يزيد في إغناء الفكر.
وبإمكاني أن أؤكد أن هذا التفاوت في الآراء يخدم التطور، ويسهل الاجتهاد، وبالتالي يوفر الإقتباس المناسب حاجات العصر من الاسلام ذلك لأن الحكم الديني بطبيعة كونه غيبياً مقدساً، يحمل طابع الاطلاق، أو ما اصطلحوا عليه (بالدوغماتيزم) وإذا كان هذا الحكم واحداً، متفقاً عليه بين الجميع، فإنه يصعب على الفقيه أو العالم أن يتجرأ في محاولة التطوير، ولكن مع وجود آراء مختلفة ومتصادمة، يسهل التطوير واقتباس الحاجات من الحكم وقد ورد عن الرسول (ص) "إختلاف أمتي رحمة".
أما بالنسبة للمساعي التي بُذلت لأجل توحيد المذاهب، أو بتعبير أدق، لأجل تقريب المذاهب، فهي مستمرة ناشطة، يدعو إليها كل مخلص للإسلام، وإن كانت ظروف المسلمين ومحنتهم بإسرائيل تفرض على الفقيه التفكير فيما يتفق عليه المسلمون، لا فيما يختلفون فيه.
ولعلكم تشاهدون في الملتقى السابع اجتماعاً لسبعة على الأقل من المذاهب الفقهية الاسلامية، يتعاون علماؤها في الإجابة على الأسئلة الخمسة المطروحة.
* طالبتم في محاضرتكم بأن تتلاءم الشريعة الاسلامية مع الواقع وروح العصر، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟
- لقد كان طلبنا - بالضبط - هو أن يتحول التشريع في العالم الاسلامي تدريجياً الى الشريعة الإسلامية المتطورة.
وأعتقد أن في المحاضرة جواباً مفصلاً لهذا السؤال، أختصره بكلمة واحدة، هي أن في الاسلام بذوراً للتطوير، وجعل الأحكام منسجمة مع حاجات الإنسان في كل زمان ومكان. وهذه البذور تجدها في موضوعات الأحكام والمبادئ المطورة وفي العناوين الثانوية.
ويمكن للمجتمع الاسلامي أن يجد ضالته ومعالجة مشكلاته من خلال هذه النقاط الثلاث، ضمن الشريعة الاسلامية، على أن الأهم في الموضوع هو أن تتقدم مؤسسة أو دولة إسلامية فتضع هذه النظريات والآراء - كلها أو بعضها - موضع تجربة في حقول محدودة، حتى إذا نجحت التجربة أو احتاجت الى إدخال بعض التعديلات، قدمت بعد اكتمالها الى المجتمعات الاسلامية للتنفيذ.
إن المشكلة الكبرى في قضايا الشريعة الاسلامية أنها بقيت قروناً طويلة معزولة عن الحياة العامة، ولذلك فهي محتاجة الى تجارب قبل التنفيذ.
* ألا يمكن الاستفادة من التجارب الانسانية في هذا الصدد؟
- إن التجارب البشرية متى حصلت وأينما حصلت، هي ثروة إنسانية عزيزة يجب الاستفادة منها.
ولكن عندما نريد أن نستفيد من هذه التجارب، لا بد من عملية "أسلمة" التجربة، وجعلها جزءاً منسجماً مع الاطار الاسلامي العام فالشريعة وحدة لا تتجزأ، ولا يمكن أن تقبل في ضمنها شيئاً غريباً، غير منسجم معها.
وقد حصل في أواخر القرن الهجري الأول، وأوائل القرن الثاني شيء من ذلك، عندما التقى المجتمع الاسلامي الحديث، بالمجتمعات العالمية التي كانت وريثة الحضارات اليونانية والاسكندرانية والكلدانية والفارسية والهندية وغيرها، حيث ترجمت معطيات تلك الحضارات، وأدخلها العلماء المسلمون بدقة متناهية ضمن الهيكل الاسلامي العام، ثم طوروها وأَثْروها، وقدموها بدورهم للعالم.
* ما هو تصوركم لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الثورة الفلسطينية ودول المواجهة مع العدو؟
- إنني في هذا الموضوع أتمكن من إعطائك الخبر اليقين، لأنني أعيش هذه العلاقات يومياً.
ولا أبالغ إذا قلت إنني - بعد التجربة - متأكد من أنه ليس هنالك ما يبرر ألا تكون علاقة الدول المحيطة بإسرائيل مع المقاومة الفلسطينية حسنة.
لقد شاهدنا في العالم تجارب المقاومة وانطلاق المقاومة من الأراضي المجاورة للوطن المحتل. لقد شاهدنا ذلك كثيراً. وفي الجزائر بالذات، حيث كانت المقاومة الجزائرية تعيش في المغرب، وفي تونس، وفي بعض مدن أوروبا، ولم تكن هناك أية مشكلة للمقاومة الجزائرية أو للدول التي كانت المقاومة تسكن في أراضيها. لذلك فإنني لا أجد دليلاً على أن يكون الأمر في موضوع السؤال مختلفاً عن غيره.
لقد قالوا - في لبنان - إن السلطات اللبنانية تحاول تصفية العمل الفدائي، بل الوجود الفلسطيني كله. وقالوا - أيضاً - إن المقاومة الفلسطينية تحاول قلب نظام الحكم في لبنان والتدخل في مختلف شؤونه، لقد قالوا هذا وذاك.
وانفجر الموقف، وأريقت الدماء، ثم تبين أنه ليس هناك ما يؤكد صدق هذه الادعاءات. فقد أثبتت المقاومة احترامها للبنان شعباً وأرضاً ونظاماً، وثبت أيضاً أن وجودها في لبنان يعزز مكانة لبنان الدولية في تصفية نتائج الحرب الباردة. ومن جانب آخر فقد صرحت السلطات اللبنانية أنها حريصة على احترامها ودعمها للمقاومة.
وظهر مؤخراً أن عدم وضوح العلاقات ووجود بعض العناصر اللامسؤولة، أو ذات النوايا غير الحسنة، قد خلقا هذا الجو المتوتر، وأديا الى حصول تلك المحنة المحزنة، وفي أيام احتفال العدو بعيده الخامس والعشرين.
ولقد تدخلت العناصر المسؤولة والمخلصة، ووضعت اسماً لصيانة هذه العلاقات بسهولة متناهية، ونحن نرجو عدم حصول أية مشكلة في المستقبل.
أما الآن فيجب السعي المتواصل في تحسين هذه العلاقات، من خلال الحوار المستمر الشامل، وهذا ما نمارسه فعلاً في لبنان، فقد تشكلت لجان مشتركة بين المقاومة وبين رجال الدين، وبينها وبين الأحزاب، وبينها وبين مجلس النواب، وبينها وبين الساسة والعسكريين، والحوار مستمر. هذا بالاضافة الى أن هناك مساعٍ لتحسين أوضاع المقاومة من جهة، وتمتين الوضع اللبناني وصيانته من جهة أخرى. وهذه المساعي ستستمر بإذن الله.
* في ظل استمرار الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية. هل يرضى الاسلام عن التفاوض مع "اسرائيل"، أو الاعتراف بها؟
- إنني كمسلم لا يمكن أن أقبل ببقاء الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين فكيف بالقدس.
وكعالم ديني يجب عليّ أن أعلن ذلك، ولا أريد به إحراج السياسيين في العالم العربي نتيجة لالتزاماتهم الدولية وظروفهم الخاصة والعامة. لأنني لا أقبل أن يحدد الزعماء العرب مسؤولياتنا الدينية من خلال ما يرتؤون من حلول سياسية. وليست هذه أول مرة تصطدم فيها الايديولوجية أو الدين، أو العقيدة، مع الأساليب السياسية، ومع تصرفات المسؤولين.
فان الاسلام الذي هو عقيدتنا لا يمكن أن يقبل ببقاء شبر من أرض فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني، ولا يمكن لمسلم أن يقبل ذلك بإرادته.
المصدر: "مجلة المجاهد الجزائرية"