ليلى عماشا
بين حين وآخر، يقوم العدوّ بنشر فيديوهات توثّق عمليات القتل بسلاح الجوّ عسى أن يُنسي من سيشاهد ما الذي جرى على جنوده برًّا. منذ اندلاع المعركة في لبنان، حتى اليوم، استخدم الصهاينة هذه المواد المصوّرة كجزء من الحرب الإعلامية والنفسية على المقاومة وأهلها. من جهة يقول عبرها للمستوطنين، إنّه يمتلك قوّة تكفي لحمايتهم ولم يخسر قدرته على قتل الذين يشكّلون خطرًا على كيانه، فيستعيد بذلك صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، ومن جهة أخرى يحاول كسر عزيمة أهل المقاومة بوضعهم أمام مشهد يُدمي قلوبهم، ظنًّا منه أنّه بذلك يسلبهم إرادة القتال ويقتل فيهم "الرّوح" التي تقاتله، وبالطبع يمرّر رسالة تقول للشعوب أو حتى للأفراد الذين قد يفكّرون بمقاومته في البلاد العربيّة ولا سيّما في مصر والأردن بوصفهما دولتين عربيّتين مجاورتين للأرض المحتلّة، أن انظروا ما الذي يحدث لمن يواجهني. في الواقع، يعتقد العدوّ أنّ هذه المشاهد كفيلة بمحو ذلّه في المواجهات البريّة التي مُنيت قوّات نخبته فيها بأقسى الخسائر وكشفت عجزًا عسكريًا واضحًا، إذ بات الصغار قبل الكبار يعلمون أن التفوّق الجويّ لا يحسم معركة ولا يكفي لتحقيق أهداف العدوّ من الحرب.
ينشر العدوّ ما يتوخّى منه أذيّتنا، يختار المشاهد الأكثر إيلامًا، وينتقي الصورة التي تخدم أهدافه. يريد بثّ الرّعب وإشاعة القهر بدقائق مصوّرة منتقاة بعناية. بكلام آخر، يحاول هزيمة أهل المقاومة بالصورة، بعد أن فشل التدمير والقتل والنسف والتهجير بتحقيقها في نفوسهم. كيف يتلقى أهل المقاومة المشهد؟ كيف يتفاعلون مع "الصورة" التي تكسر قلوبهم؟ هل تنجح في هزيمتهم؟ حرفيًّا، يبدو الأمر كأنّ العدو يرمي قنبلة حارقة على أرض القلوب المقاتلة، فتقوم هذه القلوب بتفكيكها وإبطال مفاعيلها وتحويلها إلى فرصة لتجديد العزّة ورفع منسوب الغضب الثوريّ الذي يزيد من إرادة الثأر، وتعزيز الصلّة التي تربطهم بالمقاومين.
نشر العدوّ خلال الحرب فيديو يوثّق استبسال الشهيد إبراهيم حيدر في القتال وحيدًا، حتى استهدفته طائرة معادية. أراد منه القول إن المقاومين "قلّة" يتفوّق عليها بسهولة سلاح الجوّ. وبدون أن يعلم، كان يرينا بأم العين كيف تكون الرّوح الكربلائية التي لا تُهزم، وكيف هم أبناؤنا وإخوتنا على الجبهة: رجال لا يهابون الموت. شجعان لا تُرهبهم نيران العدا.. حسينيّون يترجمون "وكرامتنا من الله الشهادة" بأصدق لغة: الدم.
كذلك، وفي خضمّ المعركة والتهجير والظروف القاسية التي كان يواجهها أهل المقاومة خلال العدوان، نشر العدوّ مقطعًا مصوّرًا يوثّق شجاعة المجاهد علي حب الله، وحيدًا أيضًا، بالقرب من مركبة "بيك آب"، يقاتل، يستبسل إلى آخر الطلقات، قبل أن تقوم طائرة للعدوّ باستهدافه ويرتقي شهيدًا. وبالطبع، كان يتوقّع العدوّ أن المشهد الذي يسقط على القلب كمطر من جمرات، سيجعل أهل المقاومة يغرقون في الأسى واللوعة، ولكن حدث ما لم يتوقّعه: تداول الناس المقطع كتوثيق يخبر كلّ العالم عن مدى اعتزازهم برجال الله، ونشرت زوجة الشهيد المقطع وقالت: "مرق كتير قدامي هالفيديو وقول شو بطل، طلع زوجي". وتحوّل المنشور العفويّ الصادق هذا إلى قنبلة رُميت في وجه العدوّ: تتوخّى إيلامنا! نألم لكنّ هيهات أن يسلبنا الألم إرادة المقاومة!
ومنذ يومين، كرّر العدوّ المحاولة، فنشر مقطعًا مصوّرًا يكشف عن آخر لحظات مجموعة من المقاومين قبل أن يقوم بقصفهم. انتشر المقطع، بكلّ ما يحوي من غربة وبكلّ ما فيه من دواعي الألم، بشكل كبير. لكنّ في هذه المرّة أيضًا، فشل العدوّ بسلاح الصورة ولم يسعفه سلاح الجوّ "المتفوّق". فالألم الذي عصر القلوب وهي تشاهد، تشكّل ذخيرة حيّة وطلقات موضّبة في مخازن إرادة القتال والحقّ بالمقاومة.
في إطار الحرب النفسية، يبدو أنّ العدوّ يستخدم الأدوات التي ثبت فشلها، على أمل أن تنجح في التعتيم على ما بات معروفًا من هزائمه في المواجهات البريّة وفي الالتحام المباشر مع المقاومين. ينقل ما حقّقه بسلاح الجو كي يخفي ما عجز عنه على الأرض.