محمد الحسيني
أي عاقل في مجال التحليل السياسي وقراءة التطوّرات وتجارب التاريخ يدرك أن ما تقوم به "إسرائيل" من عدوان متدرج في المستويات والأهداف على لبنان خاضع لسيناريو مرسوم ومحدّد الغايات والمآلات، ولا نتحدث هنا عن الجانب العسكري فقط، بل ما يرافقه من حراك دبلوماسي وبروباغندا منظمة داعمة لأهداف العدوان، دون أن نغفل دور الأدوات المحضّرة سلفاً في الداخل اللبناني وكذلك العربي التي تتحرك في كل محطة وفق تعليمات أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية.
يجمع مسؤولو العدو وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو على أن الحرب المشتعلة على الجبهة اللبنانية وجودية ولا ينبغي التراجع عنها ويجب المضي فيها حتى النهاية، مهما كلّف الأمر ومهما استغرق ذلك من وقت، معتمدين في ذلك على الدعم اللامحدود لواشنطن وعواصم الغرب الاستعماري بلا استثناء، ومنذ اليوم الأول لبدء العدوان على لبنان يتصرّف هؤلاء كأن الحرب محسومة النتائج!! ولا يختلف هذا الاعتبار في ما يتصل بالحرب على قطاع غزة، ويعتقد هؤلاء أن الحسم في هاتين الجبهتين لمصلحة "إسرائيل" تعدّ الخطوة الأولى في مرحلة تشكيل "الشرق الأوسط الجديد"، خصوصاً بعد إنجاز الترتيبات اللازمة لهذا التشكيل مع الأطراف العربية عموماً، وهذا لم يعد خافياً على أحد.
وفي هذا السياق انطلق بعض المحللين من فرضية ارتباط الحرب "الإسرائيلية" زمنياً بالانتخابات الأمريكية وإمكان تعديل سياقاتها بحسب هوية العهد الرئاسي الأمريكي الجديد، ويستدل هؤلاء على ذلك بالجهود الدبلوماسية الغربية والعربية والمواقف "الإسرائيلية" المستجدة التي بدأت تتحدث عن تحديد مهل زمنية لإنهاء الحرب بعد أن تحققت أهدافها في كلتا الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، ولكن الواقع مختلف تماماً عن كل ما سبق لسبب جوهري لا يتعلّق بالمعطى "الإسرائيلي" بقدر ما هو ناتج عما تحدّده مجريات الميدان.
صحيح أن آلة الإرهاب الصهيوني أمعنت بواسطة السلاح الأمريكي في ارتكاب المجازر والتدمير والتهجير بحق المدنيين العزّل في المناطق الحاضنة لبيئة المقاومة على امتداد مساحة لبنان، ولا يمكن إنكار المعاناة الإنسانية التي تسبّبت بها هذه السياسة المتعمّدة سعياً لتأليب هذه البيئة على المقاومة، ولكن الصحيح أيضاً أن هذا الأسلوب لم يفلح سابقاً ولن يفلح اليوم في سلخ هذه البيئة عن المقاومة لسببين أساسين، الأول: لأن المقاومين الذين يكبّدون جيش الاحتلال الخسائر الجسيمة يومياً ويردعون أكثر من خمسين ألف جندي عن تجاوز الحدود ولو بضعة أمتار، هم أبناء هذه البيئة. والثاني: لأن هؤلاء المقاومين كما بيئتهم يؤمنون حقاً لا ادعاءً بأنهم مسؤولون تاريخياً وواجباً اعتقادياً عن حماية لبنان وسيادته واستقلاله واستقراره وحفظ مصيره ومستقبله.
على هذا الأساس يأخذ الصراع في المعادلة الوجودية مساراً متقادماً لا مجال فيه للتسوية، ولئن تخللت الحرب محطات تهدئة أو "هدنة" فإن الخلاصات لا بد أنها سوف ترسو على نهاية حتمية تفرضها اتجاهات العدوان، ومنطق فلسفة التاريخ يؤكد أن الأصيل ليس كالدخيل، وأصالة المقاومة في تاريخ الأمّة أثبتت أنها عصيّة على الاندثار بعكس كيانات الاحتلال التي لن تلبث أن تزول، كما ستزول معها الأدوات الداخلية التي استعجلت الرهان على مرحلة ما بعد حزب الله وأسفرت عن وجه عمالتها وارتهانها وتبنّيها الخطاب الأمريكي - الإسرائيلي، مع علم هؤلاء المرتزقة أن رهاناتهم ستخيب كما خابت من قبل، وهذا ما سوف تثبته الأيام والليالي والميدان.