عبد الحسين شبيب
يصح القول إن بعض الأسئلة تعتبر مشروعة حول سبب ما يسميه البعض الانهيار السريع لقواعد الاشتباك ومعادلات الردع بين حزب الله والكيان "الإسرائيلي" في وقت قياسي.
لكن الحقيقة هي أنه لا يمكن مقاربة هذا الموضوع بأسئلة مقتضبة ذات طابع مهني محض، ولا بأجوبة أكثر اقتضابًا أو تحاشي الأجوبة ظنًا بأنه لا يتوافر جواب على هذه التساؤلات.
الواقع أن تفسير ما يجري يمكن أن يتم في سياق فهم كلي لمسار المواجهة والسلوك "الإسرائيلي" وطبيعة المعركة الراهنة وتوصيف الاخطار المحدقة ونوعية الأهداف المحددة. وبناءً عليه يمكن إدارج بعض التوصيفات والوقائع أدناه كجزء من مساهمة لفهم طبيعة وحقيقة التراجع/ التحول والمسار المستقبلي المرتبط بالحرب الحالية.
1- تخوض "إسرائيل" الحرب الحالية ضد حزب الله في لبنان وقبلها وبالتوازي ضد قطاع غزة بمفهوم "العصابة وليس الدولة"، وهذا أمر شديد الأهمية برز بشكل رسمي من خلال الوحشية المفرطة في القتل والتدمير بلا هوادة وبلا أي اعتبار لأي حصانات للمدنيين وللأعيان المدنية ونسف كل الاتفاقيات والمبادىء القانونية الدولية وعدم الاكتراث لأي نص أو قاعدة أو عرف أو اتفاقية أو مبدأ، وبالتالي تفلتت "إسرائيل" من أي قيد دولي تشريعي أو مفاهيمي، وسقطت أمام هذه الوحشية "الإسرائيلية" المفرطة كل المؤسسات الدولية والإقليمية المسؤولة عن حفظ وإدارة حالتي السلم والحرب.
وبلغ الأمر بمندوب "إسرائيل" في الأمم المتحدة أن مزّق ميثاق الأمم المتحدة علنًا في مقر الجمعية العامة دون أي ردة فعل دولية زاجرة مثل عقوبات وغيرها أو تعليق عضوية "إسرائيل" في الأمم المتحدة. وشكّل هذا امتحانًا لكل فلسفة وفكرة القانون الدولي والشرعية الدولية والمؤسسات الدولية وهي القواعد والمعادلات الأساسية التي تلزم أي دولة بالتقيد بها واحترامها. ومن دون إطالة لشرح لهذه النقطة فإنه يصبح مفهومًا كيف نسفت "إسرائيل" قواعد الاشتباك ومعادلات الردع على الجبهة اللبنانية بعدما نسفت وتجاوزت ما هو أعلى منها من ضوابط وقواعد ومعايير، وبالتالي يسهل فهم التصرف "الإسرائيلي" هذا المتفلت الذي يبرر لنفسه هذا الخروج على كل شيء بذريعة (وهي حقيقة) أن الكيان "الإسرائيلي" المؤقت يعالج تهديدًا وجوديًا بدأ يتلمسه على الأرض منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. وبمعزل عن هذا التفلت فإن الحرب هي الفرصة الأولى أو التعبير الأول عن كسر لكل التفاهمات والاتفاقات والمعادلات وبالتالي يصبح التساؤل عن فعالية معادلة ما ووجودها من عدمه أمر غير مهني لأن وظيفة الحرب تغيير وإنشاء وضعية ومعادلات جديدة، وتعني الحرب بالمجمل انتهاء مفعول أي اتفاق أو معاهدة أو معادلة. فكيف إذا كانت الحرب الحالية ارتقت في التعريف "الإسرائيلي" إلى تصنيفها "حرب النهضة" أو "يوم قيامة جديد" يهدف إلى بناء جديد للشرق الأوسط.
2 - تحت هذا السقف الأعلى وتحت خلفية تموضع الخطر الوجودي في العقل "الإسرائيلي" يمكن القول إن "إسرائيل" تحسست مجموعة من الأخطار الوجودية والإستراتيجية مجتمعة مع انتهاء مفعول العقيدة العسكرية الأمنية التي كلفت "إسرائيل" والولايات المتحدة عقودًا من الصراع والأكلاف البشرية والمادية لتثبيتها، ثم فجأة وجدتها تنهار بالتدريج أو دفعة واحدة في المرحلة الأخيرة. لا داعي للإطالة في شرح كيف تداعت أركان هذه العقيدة الأربعة: الردع، الإنذار المبكر، القتال في أرض العدو والحسم، وهو مسار لا يمكن تجاوزه في أي مبحث أو نقاش لفهم خلفية السلوك "الإسرائيلي" الراهن سواء في لبنان أو غزة أو المنطقة عمومًا". فالردع تضرر منذ حرب تصفية الحساب في تموز عام ١٩٩٣ عندما فرض حزب الله رسميًا معادلة المدنيين اللبنانيين مقابل المستوطنين الصهاينة، وهو في ذلك الحين قوة محلية وتم تطويره تصاعديًا إلى ما قبل بدء "إسرائيل" حربها المفتوحة على لبنان.
هذا الانهيار التدريجي لمرتكز أساسي من العقيدة العسكرية "الإسرائيلية" تلاه انهيار حقيقي لثلاثة مرتكزات دفعة واحدة في السابع والثامن من أكتوبر ٢٠٢٣ عندما فشلت استخبارات العدو بكل أذرعها في توقع عملية طوفان الأقصى والاستعداد لها واحتواء مخاطرها. فلا حصل إنذار مبكر بشأن عملية حماس ولا بشأن ردة فعل حزب الله إسنادًا لغزة ولا حتى جبهتي الإسناد اليمنية والعراقية. وطوب الفشل "الإسرائيلي" الاستخباراتي بانهيار تام لمفهوم وقدرة الإنذار المبكر، وصولاً إلى عمليتي الوعد الصادق 1 و2 الإيرانيتين. ولا تزال "إسرائيل" حتى الآن تفتقد القدرة على فهم وتوقع سلوك أعدائها رغم كل ما تقوم به من عمليات مباغتة واستباقية بطريقة عشوائية كأسلوب حصري لمعالجة "الأخطار المحتملة" وليس "المحتّمة"، لأن المحتّمة يعني توافر إنذار مبكر وهو معطل حتى الآن رغم الشراكة "الإسرائيلية" الكبيرة مع الولايات المتحدة وأطراف دولية وإقليمية ومحلية تعمل معها للتشخيص المبكر لهذه الأخطار.
أما المرتكز الثالث وهو خوض القتال في أرض العدو فقد تحول في السابع من أكتوبر إلى داخل الأراضي المحتلة وبطريقة غير مسبوقة عبر اقتحام مجموعات كبيرة من مقاومي حماس وحفز هذا الاقتحام "الإسرائيليين" على الالتفات إلى الخطر المحدق بهم من الجبهة الشمالية وتهديد حزب الله مرارًا باقتحام الجليل لتترسخ هذه الحقيقة في الوعي الجمعي "الإسرائيلي"، فكان الإخلاء "الإسرائيلي" لعدد كبير من مستوطنات الشمال قسرًا بأمر من السلطات العليا وطوعًا من المستوطنين الخائفين من 7 أكتوبر لبناني. بذلك فقدت "إسرائيل" حصريتها في قدرتها على قتال أعدائها في مناطقهم. أما المرتكز الرابع وهو الحسم السريع لأي حرب فلا يزال بعد أكثر من عام يختبر في قطاع غزة بفشل مريع رغم التدمير والقتل بلا هوادة. وهذا مفهوم (منع القتال في أرض "إسرائيل") ثبت بالدليل الحسي أنه خرج من الخدمة.
كيف ترجمت "إسرائيل" هذا الانهيار في عقيدتها العسكرية والأمنية؟
أ- فتحت المهل الزمنية لأي حرب ولم تعد قادرة على تحديد إطار زمني لها، وباتت ملزمة بالقتال في الصيف والشتاء والربيع والخريف وليس في فصل واحد ما بين الربيع والخريف؛
ب- لم تعد قادرة على وضع مهل زمنية لإنجاز المهمة أو تحقيق أهداف أي حرب في فترة محددة، وبات على الجمهور "الإسرائيلي" أن يعيش حالة الطوارىء ويتعايش مع صفارات الإنذار يوميًا وتلقي تعليمات الجبهة الداخلية ساعة بساعة ودون أي سقف زمني محدد لانتهاء هذه الكوابيس. وآخر فشل لها كان في عدم قدرتها على إعادة مستوطني الشمال بعد أسبوعين من بدء العدوان الكبير على لبنان؛
٣- بات لزاماً على "إسرائيل" أن تفتح عداد القتلى والجرحى والأسرى على مصراعيه وبلا أي أسقف عددية وهو أمر له تبعات كبرى داخل المجتمع "الإسرائيلي"؛
٤- الكلفة الاقتصادية وتعطل الحياة ودورة العمل وأكلاف الحرب باتت هي الأخرى خارج أي نقاش أو تحديد زمني لطمأنة المستثمرين وأصحاب المصالح والقطاعات الإنتاجية وغيرها من التي تشكل موارد مالية أساسية في كيان العدو. لم تعد القيادة "الإسرائيلية" قادرة على تقديم أي التزامات في الموضوعات المدرجة أعلاه. وهذه مؤشرات كانت تعبر عن الحيز التطبيقي للعقيدة الأمنية بحيث يتلمس "الإسرائيلي" فوائدها المباشرة بإنذاره المبكر لترتيب أموره وتنحية مناطقه عن الحروب وحسمها بسرعة وعدم إطالة أمد أي حرب أو عملية عسكرية والعودة منها بنصر واضح وحاسم وبأكلاف بشرية ومالية محدودة ومقبولة؛ وهذه نقطة إشكالية بدأت "إسرائيل النظر فيها لتحديد تعريف ومفهوم جديد للنصر في أي حرب قبل السابع من أكتوبر وباتت الآن أكثر إلحاحًا وحاجة لـ"إسرائيل" بعد هذا التاريخ.
بالتأكيد كل هذا الانهيار الذي حصل بخصوص العقيدة العسكرية والأمنية هو بفعل الجهد السابق والحالي لحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية ومكونات محور المقاومة التي أدى جهدها وجهادها إلى إسقاط هذه العقيدة بشكل مريع لـ"إسرائيل"، وهو أمر جوهري في فهم نتائج الصراع الحالي ولا يمكن المرور عليه أو تجاوزه وهو يسمو ويعلو على أي نقاش حول معادلات الردع التي كانت قائمة قبل 7 و8 أكتوبر وانتهت الآن، لكن الأهم منها بالنسبة لـ"إسرائيل" أنها تقاتل الآن وتحارب لإعادة بناء عقيدة عسكرية وأمنية جديدة وأيضًا في درجة موازية للأهمية إعادة بناء مرتكزات الأمن القومي "الإسرائيلي" التي شكل تداعيها بشكل مهول المسار الثاني الذي يمكن خلال بحثه تلمس حجم الخسائر التي منيت بها "إسرائيل" خلال عام ونيف ولا تزال.
٢- الأمن القومي "الإسرائيلي"؛
ليست هذه مفردة عادية يتم تكرارها واستخدامها في سياق إظهار الإمساك بالنقاش من مستويات أعلى. في الحقيقة يمكن رصف بعض المفاهيم/ الاستحقاقات التي تشكل بمجموعها مكونات أساسية في الأمن القومي "الإسرائيلي". في الخلاصة وقبل الاستدلال على هذه النتيجة المهمة جداً يمكن القول إن هذا المجال/ المفردة قد تفقد ميزتها الجغرافية الحصرية "الإسرائيلية" للتحول نحو مفهوم مشترك للأمن القومي "الإسرائيلي" الأميركي الغربي الإقليمي. لقد فرضت عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من وقائع مرتبطة بجبهات الإسناد مساراً مختلفاً على أمن "إسرائيل" القومي وتحديات غير مسبوقة بسبب الانكشاف الذي حصل ولا يزال. ويمكن فرز النقاط التالية لتشريح الاهتزازات الخطيرة التي طاولت هذا المجال:
أ- الحاجة المستمرة إلى الحماية الأميركية المباشرة. هذا الموضوع برز بشكل علني ودون إثارة أي إشكاليات مرتبطة بمفهوم السيادة الذي عادة يطرح كنقطة ضعف في لحظة استنجاد أي طرف بالخارج، وربما يبرز مفهوم "المؤقت" هنا بشكله الأوضح في تحديد وضعية هذا الكيان. احتاجت "إسرائيل" فورًا إلى تدخل عسكري وأمني وسياسي ودبلوماسي وإداري أميركي مباشر لإبقائها واقفة على رجليها" كما يقال في اللغة العامية. لم تجد "تل أبيب" حرجًا في الاستنجاد العلني أو الإفصاح عن هذا الأمر. تشارك صناع القرار في "إسرائيل" مع مسؤولين وضباط ومختصين أميركيين وبريطانيين في نقاش كيفية مواجهة المستجدات وترشيد القرار ودعمه ليكون قرارًا مشتركًا. فضلاً عن التمركز العسكري لقوات خاصة وقطع حربية بحرية وجوية أميركية وغيرها استقدمت على وجه السرعة للحؤول دون انهيار إسرائيل وهذه حقيقة تم الحديث عنها باستفاضة في الإعلامين "الإسرائيلي" والغربي. ومن دون الإطالة في هذا الموضوع الذي تتوافر فيه أدلة ووقائع كثيرة فقد احتاجت "إسرائيل" إلى عدة طبقات من الحماية الجوية والصاروخية الأميركية والأوروبية والإقليمية لاحتواء عملية "الوعد الصادق الأولى" الإيرانية، قبل أن تباغتها عملية "الوعد الصادق الثانية" بأمطار من الصواريخ الفرط صوتية التي رسمت مشهدًا لم تعرفه "إسرائيل" منذ إنشائها. لكن التدهور الأكثر إشكالية لمستقبل "إسرائيل" والذي لا يمكن معالجته لا على الفور ولا في المدى المتوسط أنها احتاجت إلى منظومة "ثاد" الأميركية ونشرها في فلسطين المحتلة وبإدارة أميركية مباشرة من أجل توفير حماية لـ"إسرائيل" من الصواريخ والطائرات الإيرانية قبل تنفيذ الاعتداء "الإسرائيلي" الأخير على إيران. والأهمية في خلفية نشر منظومة "ثاد" هو نعي القدرة التكنولوجية "الإسرائيلية" الدفاعية المتطورة جدًا في مواجهة القدرات العسكرية الإيرانية، وهذا ليس تفصيلاً عرضيًا أبدًا، بل يشكل أحد أهم مرتكزات الأمن القومي "الإسرائيلي" وهو الاكتفاء الذاتي المعلن عنه سابقًا والمحتفى به مراراً بتوافر سلسلة من منظومات الدفاع الجوي والصاروخي "الإسرائيلي"، والتي فشلت في التصدي وحدها لصواريخ ومسيرات "الوعد الصادق 2" الإيرانية وكذلك جزءًا لا بأس به من صواريخ ومسيرات حزب الله واليمن والمقاومة العراقية. والأثر السلبي لهذه النتيجة يمكن تلمسه لاحقًا في عدة مسارات تنطوي على خسائر إستراتيجية لـ"إسرائيل" أقله الفشل في إقناع الزبائن الجدد في الشرق الأوسط ببيعهم سلعة الحماية من إيران مقابل التطبيع "الإسرائيلي". الخسائر هنا تحتسب بالجملة وليس بالمفرق لأن هذا الانكشاف "الإسرائيلي" والحاجة الدائمة للحماية تنتقص من الأمن القومي بنطاقه الجغرافي الحصري وتحوله إلى أمن تبعي استلحاقي بالمصالح الأميركية والغربية في الشرق الأوسط؛
ب- الاستباحة الجوية؛ يشكل هذا المبحث نقطة ارتكاز جديدة في مفهوم الأمن القومي "الإسرائيلي" الذي بني على حصرية التفوق الجوي "الإسرائيلي" في الشرق الأوسط. لا تزال "إسرائيل" تمتلك هذه الحصرية ولديها الوسائل اللازمة لاستباحة أجواء خصومها، لكنها في العدوان الأخير على إيران لم تستطع أن تقترب من الأجواء السيادية الإيرانية لأسباب عديدة بعضها متعلق بنقاط قوة إيرانية ونقاط ضعف إسرائيلية. لكن الفارق الجديد تمثل باستباحة يومية من قبل حزب الله واليمن والعراق كل بنسبة معينة للأجواء الإسرائيلية بالصواريخ الباليستية والمجنحة والمسيرات واضطرار الصهاينة إلى التعايش مع أسلوب جديد في المواجهة ومخاطر جديدة واختراقات في وعي الجمهور شاهدوها بالعين المجردة ولم يسبق أن قام الإعلام أو المستوى الأمني والعسكري والسياسي في الكيان وحتى الخبراء والمحللون بإحاطة الجمهور الإسرائيلي وتحذيره المسبق لهم منها. صحيح لا يوجد تكافؤ في الفرص والتهديدات لكن هناك تحول نوعي في كسر أحد أهم مرتكزات الأمن القومي الإسرائيلي وهو بعد اجواءه عن هذا القدر غير المتوقع من المخاطر وبوتيرة شبه يومية من حيث الاستهداف ومن حيث الفشل اليومي في التعامل مع هذا التهديد. سلسلة العمليات الأخيرة التي نفذها حزب الله بسلاح المسيرات والتي طاولت أهدافاً نوعية مثل معسكر غولاني في بنيامينا ومنزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قيسارية والمسيرة التي ضاعت لساعة في أجواء فلسطين ومرت قرب مروحية أباتشي وأنزلت مئات آلاف الإسرائيليين لساعات إلى الملاجىء، هذه الاستباحة جديدة وطارئة بهذا الشكل على مفهوم الأمان الذي أعطي للصهاينة منذ تأسيس كيانهم عام ١٩٤٨ وهم يشاهدون الآن بالعين المجردة وبكاميرات هواتفهم كيف يسحق وينزع هذا الامتياز دفعة واحدة. المسألة ليست مرتبطة بالقدرة التدميرية التي حصلت ويمكن أن تحصل وتتطور من خلال المزج بين مجموعة من الأسلحة المسيرة والصاروخية، لكنها تكمن في الفشل في الكشف المبكر والفشل في معالجة الخطر بنسبة مئوية عالية، والأهم الفشل في إسقاط إرادة وقرار الأطراف والقوى التي تستخدم هذه الاسلحة ضد إسرائيل في ذروة غطرستها وتوحشها ضد قطاع غزة ولبنان؛
ج- تراجع نسبة المناطق الآمنة في إسرائيل: على مدى عام ونيف ازدادت تباعاً المناطق غير الآمنة في الكيان المؤقت إن من جهة قطاع غزة أو من جهة البحر الأحمر وإيلات حيث الضربات اليمنية والعراقية أو من ناحية الشمال حيث عمليات حزب الله اليومية التصاعدية، أو الوسط وهي منطقة عمل مشتركة فلسطينية ولبنانية ويمنية وعراقية وإيرانية. لا تستطيع أن تزعم قيادة العدو الآن أن هناك منطقة آمنة في "إسرائيل". كل مناطق كيان العدو خطرة بدرجات متفاوتة من الأعلى إلى الأدنى أو معرضة للخطر وبنسب تختلف بين منطقة وأخرى. لكن خلاصة الوضعية الراهنة أن الصواريخ والمسيرات المتعددة المصادر وجبهات الإطلاق زادت من نسبة المناطق المصنفة حمراء وأدخلت الإسرائيليين في نوعين من السلوك: إما النزول اليومي إلى الملاجىء والأماكن الصالحة للاختباء أو النزوح من منطقة خطرة إلى أخرى أقل خطراً أو عديمة الخطر وهي قليلة نسبياً أو الفرار من "إسرائيل". عندما تصبح مساحة كبيرة جداً من كيان العدو معرضة لخطر الاستهداف اليومي والمفاجئ فإن ذلك يعني تراجعاً في قدرة قيادة الكيان على توفير الحماية والضمان والاستقرار للمستوطنين. وهذا التراجع هو من أهم مؤشرات الأمن القومي المرتبط بالمخاطر الخارجية، وهو أمر لا يمكن معالجته ببيانات تصعيدية أو تصريحات استعراضية يستطيع المستوطن الإسرائيلي بسرعة أن يتلمس مصداقيتها من عدمها. صحيح لا يوجد تماثل في حجم المخاطر والقدرة على الإيذاء بين أطراف الصراع لكن هذه الفجوة لا يمكن معالجتها في مدى متوسط وقريب في حال استمرت الحرب العدائية على لبنان، وهذا ما ثبت بالدليل الحسي مع استعادة حزب الله قدراته النارية المتعددة المديات والأنواع والرؤوس التفجيرية. ولا يشكل الوضع الراهن حياة مثالية يمكن لقيادة العدو أن تخاطب به جمهورها بعدما أصبحت صفارات الإنذار جزءًا من حياته اليومية، مع خسائر متنوعة يومياً بشرية ومادية ونفسية، وسيكون لقرار مثل الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية بعقد اجتماعاتها في أماكن متنقلة وسرية وعدم تحديد موعد للجلسات خوفاً من ضربات إيران أبلغ الأثر على الجمهور الإسرائيلي في تلقي الرسالة السلبية من وراء هذا القرار والتي تؤكد أنه فعلاً تضاءلت المساحات الآمنة في الكيان وارتفعت درجة المخاطر من إيران وحلفائها إلى درجة التكتم على مكان وموعد عقد جلسات مركز القرار الإسرائيلي رغم توافر الحماية الأميركية المباشرة. وهذه علامة متدنية جداً لوضعية الأمن القومي "الإسرائيلي"- الأميركي؛
٣- الوضعية العامة لـ"إسرائيل": عملياً "إسرائيل" الآن هي دولة مارقة خارجة على القانون والشرعية الدولية محاصرة قضائيًا بمجموعة دعاوى ذات قيمة وقوة قضائية مهمة جداً مع انحدار في الصورة العامة وتأثير في حجم التعاطف الغربي مع قضيتها التي سوقتها لعقود، فضلاً عن سقوطها الأخلاقي المريع الذي جردها من توصيفها كديمقراطية وحيدة في غابة الشرق الأوسط، وبرر هذا التوصيف لأغلب الدول الغربية مدها بمختلف أنواع الدعم السياسي والإعلامي والعسكري والمالي، وهي مكتسبات تعرضت ولا تزال بفعل وحشيتها المفرطة في غزة ثم لبنان إلى اهتزازات كبيرة جداً، علمًا أن هذه الوضعية المعنوية منحتها بقدر كبير لدى العقل السياسي الغربي تعريفًا موسعًا لـ"حق الدفاع عن النفس" استفادت منه ووظفته بشكل مستمر في ممارسة اعتداءات متكررة على دول وأطراف تحت هذا المبرر، ومكنها من فرض معادلات تفوُّق ميدانية جعلت يدها مطلقة وخارج الحساب ونموذجًا مستمراً للإفلات من العقاب. وبعيد أسابيع قليلة من 7 أكتوبر تحولت "إسرائيل" من وضعية المتعاطف معه بسبب تسويق مؤقت للرواية "الإسرائيلية" حول "فظاعة ما جرى بحق اليهود من قبل مقاتلي حماس" إلى دولة منبوذة تخرج أسبوعيًا في الدول الغربية وغيرها تظاهرات حاشدة تدعو إلى مقاطعتها ومحاسبة مسؤوليها بسبب جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد الشعب الفلسطيني. ويمكن القول إن "إسرائيل" خسرت غطاءً شعبيًا غربيًا كبيرًا كانت تستثمره في بناء صورة قوتها وقدرتها المستمرة على العمل بتفويض ودعم غربي بلا هوادة، وهي اليوم تخسر هذه المكتسبات وتتحول إلى دولة ملاحقة من أعلى مؤسستين قضائيتين عالميتين وهما محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. وبمعزل عن نتائج هذين المسارين القضائيين اللذين يكمل بعضهما بعضاً فإنهما يعبران عن نوعية أخرى من الخسارة الكبرى في مجال الدعم الشعبي الخارجي وهو دعم لا يمكنها الاستغناء عنه علماً أنها فرضته بالقوة بموجب المعادلة الابتزازية المرتبطة بمعاداة السامية والاستثمار المستمر منذ عقود فيها وإخضاع دول بذاتها تحت هذه الذريعة، في حين أن "إسرائيل" اليوم متهمة فعلياً وبالأدلة "بمعاداة الإنسانية جمعاء".
هذه العناوين تشكل محور اختلال بنيوي في النظام "الإسرائيلي" ككل وليست مثل المعادلات التي لا تعيش استقرارًا دائماً وتخضع لمتغيرات دائمة صعودًا أو هبوطًا تعبيرًا عن تغير ميزان القوى. وعلى العكس من تأثير الحرب السريع على معادلات الردع المتبادل وقواعد الاشتباك والتي يمكن إعادة بنائها أو الإضافة عليها فإن الاختلالات البنيوية تؤثر في الوضعية الإستراتيجية العامة لأي دولة وتحولها من دولة قوية إلى دولة ضعيفة ومن لاعب قوي إلى لاعب هامشي.