محمد الحسيني
"قوة لبنان في ضعفه" عبارة قيل إن أول من أطلقها هو رئيس الوزراء اللبناني الراحل الحاج حسين العويني إثر العدوان الصهيوني الذي استهدف مطار بيروت في العام ١٩٦٨، ولطالما كان الدافع لإطلاق هذه العبارة تشريع حال الهزيمة والاستسلام بعد كل عدوان صهيوني يستهدف لبنان، بذريعة عدم القدرة على المواجهة، نظراً لانعدام التكافؤ في القوة، وافتقاد لبنان المقوّمات التي تخوّله خوض حرب دفاعية أو هجومية، وتأسيساً على هذه النظرية سعت معظم العهود اللبنانية المتعاقبة منذ ما بعد الاستقلال حتى اليوم إلى تحييد فكرة تسليح الجيش اللبناني والحيلولة دون تحويله إلى قوة عسكرية فاعلة، حتى وصل الأمر ببعضهم في سبعينيات القرن الماضي إلى طرح فكرة بيع طائرات "الميراج" اللبنانية بذريعة أنها غير صالحة ولا تضاهي سلاح الجو "الإسرائيلي".
الهدنة الخدعة
وقيل إن صاحب العبارة الحقيقي هو الرئيس اللبناني الراحل بشارة الخوري، وكان ذلك بعد هزيمة الجيوش العربية في نكبة العام 1948 وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، والذي شرّعت بموجبه احتلال أكثر من نصف الأرض الفلسطينية ومنحتها للصهاينة. هذا في النتيجة أما في المقدّمات فإن الدول العربية المحاربة (مصر، سورية، لبنان) كادت آنذاك أن تحرّر معظم الأراضي المحتلة حتى وصلت إلى تخوم "تل أبيب"، ثم ما لبثت وبدون مقدّمات ميدانية أو سياسية موجبة أن وافقت على "هدنة مؤقتة" طرحتها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، ما أتاح الفرصة لنقل مجموعات كبيرة من المرتزقة الأوروبيين وتجنيدها للقتال إلى جانب الصهاينة فضلاً عن تسيير جسر من الدعم اللوجستي والتذخيري (وهذا ما يحصل في معركة طوفان الأقصى) ليبادر الصهاينة إلى نقض الهدنة قبل انتهاء أمدها بأيام وضرب الجيوش العربية (التي كانت بمعظمها تحت نفوذ قيادات أجنبية)، وفرض اتفاقيات هدنة جديدة بطعم الهزيمة.
تسويق التسوية
تكرّر استخدام مصطلح "قوة لبنان في ضعفه" حتى أضحى سياسة رسمية للدولة اللبنانية، ولا سيّما بعد نكبة العام 1967 حيث كرّس الصهاينة تفوّقهم على الجيوش العربية بهزيمة إضافية وتقزّمت بنتيجتها خارطة فلسطين أكثر فأكثر، وكذلك بعد اجتياح العام 1982 واحتلال العاصمة بيروت حيث راج شعار "السلام" المنسوج وفق صيغة اتفاق "كامب دايفيد" بين الكيان المؤقت ومصر، وكان الهدف الأساسي آنذاك تكريس زعامة "إسرائيل" بوصفها قوة مهيمنة في المنطقة، وإدخال لبنان في حظيرة التسوية وتحييده عن معادلة الصراع العربي – الصهيوني وضمان عزله عن الخارطة العربية والتفرّغ تالياً لاستهداف سورية باعتبارها الموقع الأقوى للنفوذ السوفييتي في المنطقة، وهذا ما يجري السعي إليه اليوم وفق الأهداف نفسها مع اختلاف في العناوين.
القوة بالمقاومة
القصد من القوة هي القوة الدبلوماسية التي تتيح للبنان التموضع في مصفوفة الدول الضعيفة والفقيرة والعاجزة وغير القادرة على الفعل والمبادرة، وتعتمد بشكل كلّي على المنظومة الدولية والقوى الكبرى المهيمنة في صوغ قراراتها السيادية أو استرجاع حقوقها المهدورة، فالشعب اللبناني – وفق هذه القناعة – غير محارب ولا يهوى القتال، بل هو نموذج للشعوب التي تطمح نحو السلام والأمن، ويتّخذ من حب الحياة وعيش الرخاء والبحبوحة عقيدة تميّزه عن غيره من الدول العربية التي انتهجت خيار المواجهة سبيلاً لتحرير فلسطين، وبالتالي من الجائر إقحام هذا البلد في أتون الصراعات وتعريضه للخطر وتكبيده الخسائر البشرية والمادية من أجل قضية لا تعنيه.
نتيجة امتشاق هذا الشعار جاءت في اصطفافين، الأول: رافض للسير به فاتّخذ خيار المقاومة والمواجهة وحقّق جملة انتصارات سياسية وعسكرية في أكثر من محطة مفصلية على مستوى لبنان والمنطقة، وشكّل سداّ منيعاً أمام استفحال مشروع الهيمنة الغربي في السيطرة على القرار السيادي، ونجح في إرساء معادلة جديدة وموازين قوى فاعلة تضمن الاستقلال الحقيقي لأنظمة وشعوب الدول الرافضة للانصياع أمام محور الشرّ الأمريكي، وجبهة المقاومة بمحاورها الشاملة نموذج واقعي عن هذا الخيار، كما جبهة الإسناد اللبنانية للمقاومة في فلسطين.
العرب يحاربون فلسطين بالوكالة
أما الاصطفاف الثاني فقد تبنّى هذا الشعار تحت عنوان الاعتدال والمضي في خيار التسوية بذريعة عدم القدرة على المواجهة والقبول بسيطرة القوى الكبرى كأمر واقع، وتسليم مقدّرات الدول للأمريكي والصهيوني دون الأخذ بالحسبان مستقبل شعوبها واستقلالها الناجز، حتى أضحى أصحاب هذا الاصطفاف عن قصد أو عن غير قصد يتبنّون المخططات السياسية الغربية ويحرصون على تنفيذ أجندتها بتفاصيلها وبرامجها كافة، وقد كشف طوفان الأقصى حقيقة هذا الاصطفاف بحيث ظهر كأن الدول العربية تأخذ جانب الانحياز للموقفين الأمريكي والصهيوني بدل تبنّي القضية الفلسطينية، كأنها أصبحت عبئاً على العرب.
الاستقلال المزّيف
لم يقدّم شعار القوة في الضعف يوماً شيئاً من سيادة أو كرامة بل سوّغ للهزيمة أسباب الاستسلام، وهذا هو دأب الأنظمة التي شيّدتها قوى الاستعمار ونصّبت عليها رؤساء يطيعون أوامر المندوب السامي الأجنبي، وللإنصاف فإن الرئيس العويني لم يكن صاحب هذا الشعار، بل ناقله بالتواتر عمّن سبقه من الرؤساء، كما لم يكن بشارة الخوري مبتدعه، بل هو الجنرال البريطاني "إدوارد سبيرز" الذي "هندس" الاستقلال المزيّف ونصب الخوري بعد ذلك رئيساً حرصاً على ترجمة هذا الشعار والإبقاء على لبنان بلداً تابعاً لمنظومة الهيمنة الخارجية، حتى جاءت المقاومة لتقلب المعادلة وتنجز الاستقلال الحقيقي وتحميه، مهما بلغت التضحيات ومهما صدحت أبواق الترويج للهزيمة والاستسلام من الداخل والخارج.