أحمد شعيتو
عندما انطلق منذ ما يقارب 11 شهراً عدوان غير مسبوق بهمجيته ووحشيته على قطاع غزة، مرفقاً بحصار مطبق، استندت المعركة ضد الإنسان في غزة كحرب إبادة على كذبة كبيرة، بإطلاق الرواية الصهيونية حول عدد القتلى في هذه العملية الفلسطينية ثم مزاعم قتل الأطفال والنساء، رغم أن التحقيقات الصهيونية نقضت ذلك لاحقًا ولا سيما موضوع استخدام الجيش الصهيوني بروتوكول "هنيبعل". هذه الأكاذيب تلقفها وسار بها الكثير من الإعلام الغربي.
لكن ما ظهر لاحقًا أن موجة التضليل استمرت وتنامت بأشكال مختلفة سواء حول الوقائع الميدانية والفشل الصهيوني وإنجازات المقاومين أو حول المجازر أو كل ما يحيط سياسيًا بالعدوان، وهي موجة ركبها عدد من وسائل الإعلام المسماة عربية أو لبنانية، بموازاة كل أحداث هذه المعركة سواء في الجنوب الفلسطيني أو على الجبهة مع لبنان، وآخرها عقب رد حزب الله على اغتيال القائد الجهادي الكبير فؤاد شكر.
ما تبدّى من فظاعة الكارثة الإنسانية في قطاع غزة والتي لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث كان يفترض من دعاة العروبة وقوفًا سياسيًا وإعلاميًا غير مسبوق مع الضحية عبر خطط مؤثرة، لكن لم يغيّر ذلك في الأمر شيئًا من هذه السياسات الإعلامية التي قامت أعمدتها على التالي وهو ما ظهر من خلاصة زهاء 11 شهرًا:
أولاً: المسارعة إلى نقل وإبراز المواقف الصادرة عن قيادات الكيان الصهيوني حول أحداث غزة والشمال ونشرها مرارًا وتكرارًا حتى بدا أن بعض القنوات والمواقع ناطقة باسم الرأي "الإسرائيلي" وهدفها الترويج للمزاعم والروايات الصهيونية أو التهديدات أو الإنجازات الميدانية المزعومة.
ثانيًا: نشر مزاعم سلبية للتأثير النفسي على الرأي العام الفلسطيني واللبناني ومحاولة تغيير توجهاته.
ثالثاً: إظهار العدو بمظهر المتماسك والقوي والمبادر للتغطية على هزائمه وإغفال الفشل الصهيوني الحاصل إلى الآن على كل المستويات.
رابعاً: عدم إظهار الخلافات السياسية والتفكك المجتمعي والاقتصادي والخيبة والفزع الصهيوني الذي يصيب الجبهة الداخلية من الأحداث والإنجازات أو الارتباك الذي نشأ من التوعد بردود إيران وحزب الله واليمنيين والعراقيين وهو خوف وهلع أثر على مختلف مناحي الحياة في كل الكيان وأصاب المستوطنين بآثار نفسية كبرى.
خامسًا: التقليل من إنجازات المقاومين وعدم ذكرها وهو ما حصل في كل أحداث العدوان والتصدي في غزة وجبهات الإسناد، وصولاً إلى الرد من المقاومة الإسلامية على العدوان على الضاحية واغتيال القائد الكبير فؤاد شكر، حيث حاول هذا الإعلام التقليل من حجم وإنجازات الرد والمزاعم حول التصدي الصهيوني وهو ما قامت به سابقًا عبر التضخيم لقدرات العدو وإمكانياته على الصعيدين العسكري والأمني من ضمن الحرب الإعلامية المواكبة للأحداث والتي تحاول التغطية على وقائع الميدان والتأثير السلبي على معنويات بيئة المقاومة.
سادسًا: استخدام مصطلحات مثل قتلى بدل شهداء لوصف ضحايا القصف، أو حرب بدل عدوان وغير ذلك.
سابعًا: الترويج لمزاعم حول ضعف وقلة صبر ونقمة في المجتمع الغزاوي أو اللبناني عبر إظهار شهادات كاذبة أو إطلاق أخبار بعنوان "الغزيون يعتبرون"أو "اللبنانيون يريدون" دون معرفة من أين أتى هذا التعميم وعلى ماذا استند، من أجل عدم إظهار الصورة الحقيقية لثبات وصبر غير مسبوق لدى الغزاويين ولثبات الجنوبيين في لبنان ومجتمع المقاومة بشكل عام وتماسكهم وتمسكهم بهذا الخط في كل منعطف من الأحداث رغم الاعتداءات المترافقة مع التهويل والتضخيم والإشاعات.
ثامنًا: ما كان لافتًا منذ طوفان الأقصى ظهور مكثّف لمنصات تسمى إعلامية وتحليلية على مواقع التواصل أو مجموعات "إعلامية" مشبوهة ترتكز على التضليل والتهويل وبث معلومات مغلوطة مجهولة المصدر تزعم أن معلوماتها موثوقة ومن أدوارها محاولات التأثير السلبي على مجتمعات المقاومة في لبنان والمنطقة (رغم ان بعض المنصات هدفه تجاري فقط عبر إطلاق عناوين أو أخبار لافتة لجذب المتابعين).
وقد ظهر هذا التحوير والكذب والتهويل لافتًا في الأشهر الماضية تجاه جبهة لبنان عند كل حدث، مثل إبراز الحديث عن إقرار خطط دفاعية وهجومية صهيونية والتوعد بتدمير حزب الله وأوهام أخرى وصولاً الى ما بعد العدوان على الضاحية، وتنامت الإشاعات و"الخبريات" حول ما حصل والتوقعات المزعومة حول ما يمكن أن يحصل.
تاسعًا: حول رد المقاومة النوعي والمتقدم على الاعتداء على الضاحية واغتيال القائد السيد محسن ظهرت في هذا الإعلام المعادي للمقاومة النقاط التالية:
● أفردت أخبارًا عديدة حول رواية الجيش الصهيوني لما حصل، بل نقلت معظم تغريداته وظهر التركيز والحرص على نقل مواقف الصهاينة وإجراء مقابلات مع الناطق باسم جيش العدو.
● تكرار أخبار وعناوين حول ما قال العدو إنه استخدمه للتصدي، مثل استخدام ١٠٠ طائرة حربية أو تأثير التعاون الأميركي الصهيوني الاستخباري في التصدي أو نشر مقاطع فيديو حول الغارات أو مقطع اعتراض طائرة دون طيار أو تزويد الطائرات بالوقود فوق لبنان. وكل ذلك يخدم التضخيم لصورة وقدرة الجيش الصهيوني.
● الحرص على الإضاءة على المزاعم حول الضربة الاستباقية ونتائجها المزعومة وحول فشل الهجوم والتصدي له والرواية الصهيونية بأنه كان مخططًا إطلاق آلاف الصواريخ إلى الشمال والعمق وأن ضربة استباقية كبيرة أحبطت هجومًا أكبر لحزب الله قبل دقائق من وقوعه.
بل استخدمت عبارات مثل مباغتة "اسرائيل" لرد حزب الله الانتقامي عبر ضربة استباقية.
● إبراز ما وصفته بعض هذه القنوات والمواقع بأوامر إخلاء لجنوب لبنان وذلك في حديثها عن تحذيرات أطلقها العدو خلال غاراته وبذلك تحاول التأثير النفسي وإظهار العدو بمظهر المتمكن من الميدان.
●أبرزت تغريدات لبعض المتنازلين عن قضاياهم الوطنية والعربية على مواقع التواصل تسخيفًا لنتائج الهجوم وتبخيسًا للأهداف التي أصابها وتعليق هؤلاء بلغة شوارعية رغم أن المعروف أن العدو ليس منذ طوفان الأقصى فقط بل منذ نشأة المقاومات ضده يتكتّم على ما يصيبه من خيبة وانكسار وهزيمة وهو ما زاد في المعركة الحالية.
ويشار إلى أن كل المزاعم حول إفشال الهجوم أو نتائج الضربة الاستباقية فنّدتها المقاومة والأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، حيث تمت الإشارة إلى مخطط الرد وما تضمنه والنجاح في تنفيذه. كما أن كل هذا التضليل والتهويل الصهيوني ومن الإعلام الكاذب لم يبخس من حجم الرد الكبير ولم يؤثر في قناعات ومعنويات المجتمع المقاوم وثقته بمقاومته وما تنجزه من انتصارات.
لقد ظهر منذ اليوم الأول للعدوان على غزة أن الحرب ليست فقط على المقاومين بل على الإنسان والمجتمع الغزاوي لدفعه للابتعاد عن التمسك بالمقاومة فكرًا ونهجًا أو التمسك بأرضه والهجرة منها، ولذلك كانت هذه الهمجية المستمرة والتجويع والحصار بموازاة موجة تضليل وتأثير اتخذ بعض الإعلام المسمى عربيًا دورًا فيها وتنامى هذا الدور وبلغ حد الوقاحة مع مرور الوقت.
لكن أهل قطاع غزة قدموا أبهى صور الصمود الذي لا يصدق، والمقاومة في غزة صمدت صمودًا تاريخيًا أمام آلة الحرب الطاحنة المدعومة أميركيًا بعشرات المليارات، وألحقت الفشل والخسائر اليومية بالجيش الصهيوني بمشاهد موثّقة تدرّس في مدارس المقاومة، مما أعطى المزيد من التماسك للغزيين.
وفي لبنان لا تزال المقاومة تحقق إنجازًا تلو آخر وضربة نوعية وراء ضربة وصولاً إلى العملية النوعية الكبرى "عملية الأربعين" لتؤكد قدرتها وتأثير معادلاتها التي يحسب لها العدو كل حساب.
محاولات التأثير على المجتمع كانت تتصاعد كلما مرّ الوقت وكلما ثبت الفشل في هذه الحرب، ولكن الواقع أنه رغم الحملات الإعلامية والسياسية واستضافة المطبّلين لكل ما هو ضد الفكر المقاوم وإطلاق الادعاءات المزعومة ضد المقاومة في فلسطين ولبنان، فإن هذه الحملات فشلت في التأثير في مجتمع المقاومة وبدا من جديد أنها تكرار لمراهنات خائبة لم تصب القناعات التي تبلورت على مدى عقود بأي أثر أو خدش، وهو ما ظهر جليًا لدى شعب المقاومة في غزة والضفة ولبنان وكل المنطقة، ولا تزال مظاهره تخرج أمام الملأ من مواقف عزة وتحركات شعبية وصمود وإباء وثبات على القناعات، ومنها القناعة حول دور وفاعلية المقاومة في غزة في منع التهجير وفي إحقاق الحقوق، ودور جبهات الإسناد ودور المقاومة في الدفاع عن لبنان لأن العدوان على غزة رغم هذه الآلام لم ينجح في أهدافه ضد الإنسان والمقاومين ولو نجح لكان الهدف الثاني هو لبنان وشعبه.
أما الحقيقة الأساسية التي لا يمكن للعدو وحلفائه والمطبّلين والمطبّعين الهروب منها أن طوفان الأقصى ومقاومة غزة وجبهات الإسناد وردود إيران وحزب الله وفاعلية المحور كان لها عميق التأثير في الجيش الصهيوني والسياسة والاقتصاد والمجتمع بشكل غير مسبوق، وهذه التأثيرات ستعني إضعاف هذا الكيان وتشرذمه وهو ما سيتبدى مع مرور الوقت.