أحمد فؤاد
"أخطر الحروب هي التي تستهدف الوعي، والسيطرة على عقل وقناعات الإنسان".
سماحة سيد الوعد الصادق، حفظه الله.
في وسط طوفان الأقصى المشتعل، بطول المنطقة وعرضها، ومع قرب وصول المواجهة لعتبة الثلاث مائة يوم من الصمود الأسطوري غير المحدود ولا المتصور، خصوصًا في غزّة، رايتنا المرفوعة، المدينة البطلة، والرمز المقدس لإرادتنا وشرفنا، فإن عودة العقل العربي قليلًا لقراءة صفحات تاريخ صراعنا مع الغرب-كل الغرب - ضرورية للوعي السليم، الوعي الذي يتشكّل لدى الأجيال الجديدة خصوصًا، والذي ولد معمدًا بدماء أشرف أبناء هذه الأمة وأعزها وأكرمها، من قدموا الفداء على طريق القدس.
في يوم 26 تموز/ يوليو 1956 ومن الإسكندرية، دوّت كلمة الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر بإعلان قراره التاريخي تأميم قناة السويس باسم الأمة.، كانت تلك لحظة تحول كبرى في مصر والمنطقة والعالم، كانت أيضًا واحدة من المرات النادرة التي يربط فيها طرف عربي بين أميركا وبين السيطرة الشيطانية على أقدار الشعوب وامتصاص دمائها وثرواتها، وكانت صيحة عربية غاضبة في وجه الكل، بأن المنطقة لها أصحاب، وأصحابها قادرون على استرداد حقوقهم وعلى صيانتها، ويملكون الكفاءة والإرادة والأعصاب لإدارة حاضرهم وتحديد مصائرهم.
قدّر عبد الناصر، قبل أيام طويلة من لحظة إعلان قرار التأميم، وبعد سحب الولايات المتحدة الأميركية لعرض تمويل حلم مصر الكبير - السد العالي - ببيان تعمد إهانة الكرامة المصرية، أن قرار تأميم قناة السويس سوف يؤدي إلى تعبئة جماهير الشعب المصري وجماهير الأمة العربية حول هدف واضح وواحد، ويلهم الجميع معنى الاعتماد على النفس. وتأميم شركة القناة أيضًا سوف يكون ردًّا كاملًا على سياسة الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، وسوف يبين لهم أننا قادرون على الحركة، متحملون لمسؤولياتها، وأنهم لا يستطيعون بعد اليوم أن يقرروا مستقبلنا، فضلًا عن أن يقوموا بتوجيه الإهانات لنا، والقرار يحقق إمكانية تمويل السد العالي، كما أنه يلبي حلمًا كان يراود كلّ المصريين، ويؤكد استقلال القرار السياسي بكسر التبعية الاقتصادية والمالية، كما أنه يضيف أهمية القناة إلى أرصدة مصر الاستراتيجية.
كانت تلك أمجد لحظات الزعيم المصري الراحل، وأعظم أيامه، وربما لن نتجاوز لو قلنا إن معركة تأميم قناة السويس والانتصار على العدوان الثلاثي بعدها هما أروع صفحة في تاريخ مصر الحديث بالكامل، إذ إن القناة ومنذ افتتاحها في 1869 بحفل أسطوري باذخ ومترف، صارت هي النقطة المحورية التي يدور حولها التاريخ المصري، وتنعكس على صفحة مياهها تحدياته وآلامه وتضحياته، بل وآماله الكبار.
تأميم قناة السويس بالذات كان صرخة حق عربية، وقودها الإرادة الفولاذية والوعي في أعز تجلياته بالعدو الأول للأمة، وكان عبد الناصر في فعله مندفعًا واثقًا بأن خدعة الاستقلال السياسي الشكلي ما هي إلا لعبة غربية هُندست لاستمرار الاستلاب التاريخي للمنطقة، وأن الحل الوحيد الصحيح يكمن في كسر أطواق التبعية الاقتصادية والخضوع السياسي والتفكك والتشرذم ضمن حدود سايكس - بيكو، وعليه فإن قرار تأميم قناة السويس، الذي اتّخذه وتحمل المسؤولية التاريخية عنه، فيه الكثير من نقاط التقاطع مع عملية طوفان الأقصى المباركة.
المصادفة اللافتة هي أن وضع العالم العربي قبل التأميم كأنه هو وضعها قبل طوفان الأقصى المبارك، كلّ الطرق كانت مسدودة، الأنظمة الرسمية العربية واقعة بين الخيانة والجبن والاستسلام، والسيطرة الغربية على المنطقة كاملة مشددة وفي أوجها، وكانت المخاوف الحقيقية التي تتردّد في مصر أن هذا القرار سيثير جنون الغرب، ويستتبعه حتمًا عمل عسكري واسع وغاضب وثقيل، وأن الحقائق المادية لا تجعل مصر طرفًا منتصرًا في هذه الحرب القادمة، إذ لم يكن مر على الجلاء البريطاني عن البلاد سوى عامين بالضبط.
المصادفة المدهشة الأخرى، أن ناصرًا، الثائر العربي الشاب، قد فهم مبكرًا جدًا العلاقة البنيوية بين التحرر والوحدة، فلا تحرير من دون وحدة تقف في وجه الغرب. اليوم أيضًا يخوض محور المقاومة الصراع العسكري الجبار تحت عنوانين رئيسيين هما وحدة الساحات والتحرير.
انتصرت مصر في معركة المستحيل، لأنها نجحت بقرارها ثمّ بصمودها في تحريك جماهير عالمها العربي من الصمت إلى الفعل. سورية - كما هي عادتها وطبيعتها - وجهت ثلاث ضربات كبرى للعدوان الثلاثي؛ تفجير محطات ضخ البترول المار بسورية إلى البحر المتوسط كان بمثابة قنبلة نووية اقتصادية ضربت بريطانيا وكسرت إرادة القتال لديها، ثمّ عملية الضابط البحري جول جمال، البطل الذي أغرق فخر البحرية الفرنسية البارجة "جان دارك" أمام سواحل بورسعيد، والمذيع العربي الكبير قيمة وقامة عبد الهادي البكار، الذي رفض إسكات صوت مصر، وصدح من الإذاعة السورية "من دمشق هنا القاهرة"، وهو تصرف انعكس على زيادة صلابة وشموخ المقاومة الشعبية التي نهضت لدفع ضريبة الدم أمام العدوان.
مصر اليوم قبل 68 عامًا كانت تعيش نفس وضع غزّة تقريبًا، فقد باعها أكثر الأشقاء والأقربون وحتّى البعيدون، ولم يقف في خندقها سوى محور الشرف، وقبل الطوفان بأيام كان الكيان على موعد مع أهم خطوة منذ إنشائه على أرض فلسطين بالتوصل للتطبيع الرسمي مع السعودية، ووراءها الخليج كله، وكان أي تقدير منطقي وعقلاني لحسابات عملية عسكرية تظهر أن ردًا صهيونيًا سيقع بلا ذرة شك ولا تأخير، وسيكون عنيفًا وغير مسبوق في إجرامه وبطشه، ثمّ إن الولايات المتحدة، وهي في عام انتخابات، ستضع ثقلها بالكامل وراء الكيان.
رغم كلّ تلك العوامل المادية، فقد أظهر الإيمان أنه قوة لا يمكن كسرها أو إخضاعها، مهما كانت قدرة النار ومداها وقوتها، خصوصًا إذا ما اقترن بصلابة الإرادة وسلامة الوعي. تمثل معركة طوفان الأقصى أطول وأعمق وأشرس معاركنا مع العدوّ الصهيوني، لكنّها أكثر من ذلك فجرت شرارة حرب شاملة ضدّ العدوّ الأصلي - الأميركي - وهو قد تكفل بإثبات ذلك بهبوطه منذ اللحظة الأولى على ميادين القتال، ورغم الأعداء والخونة العرب، فإن الكيان قد دفع أثقل كلفة دم في تاريخه كله، ثمّ إن جبهة المقاومة والشرف والكرامة قد قدمت من التضحيات ما تعجز الكلمات عن الإحاطة به، وما تضيق الأوصاف عن نقله أو شرحه، قدمت الجبهة من الشهداء الأعز فالأعز، وفي عقيدتنا وإيماننا فإنهم قرابين الحق، لا نعدهم خسائر، لكنّهم مشاعل النور في طريق الله، طريق الحق المقدس.
.........
ما ينقصنا على مستوى العالم العربي هو الدور الإيماني والجهادي الذي يجب أن يكون عليه الإنسان المسلم في كلّ شؤون حياته، مبشرًا دائمًا بالنصر الحتمي للمؤمنين، وفي الوقت ذاته، يجتهد فرديًا وجماعيًا ليوجّه ويحشد القيم الثورية العظمى للتاريخ والثقافة العربية والإسلامية في صقل بيئته.وهنا كلمة للتاريخ، سماحة السيد حسن نصر الله - حفظه الله - هو الرجل الذي يجسد تلك القيم إيمانًا وفعلًا وضميرًا يقظًا، بمسؤولية وأمانة كسر أوثان الباطل، وحين تحدث سماحة سيد الوعد الصادق، سيدي وسيد المقاومة، عن "الجهاد الزراعي" وضرورة تحقيق الكفاية الانتاجية الأساسية للبيئة الجهادية، كان يمارس أعظم أدواره وأهمها وأدقها، كان سماحة السيد يدعو وينبه ويوجه جماهير المقاومة - وهي كبيرة في لبنان وكبيرة خارج لبنان - إلى أزمةِ واقعِها الحقيقية، ومن ثم، يستحثها على الحركة لحتمية تغييره.