علي عوباني
اجتاح تسونامي الهزيمة في حرب تموز 2006 كيان العدوّ بمختلف مؤسساته السياسية والعسكرية، إقالات واستقالات أطاحت برؤوس كبيرة أقصتها وشطبتها من معادلة الحكومة والجيش لتخلفها رؤوس أخرى، على قاعدة الاستفادة من تجارب الآفلين، وأخذ العبر لمعاجلة الجيش المهزوم بـ (نفضة واسعة) بناءً على توصية تقرير فينوغراد، وافتتاح ورشة كبيرة لترميمه وتطويره، بعدما كشفت الحرب أن "الجيش الذي لا يقهر" و"الأقوى في الشرق الأوسط"، عاجز وفاشل في البر والجو والبحر، إذ سقط برًّا على أعتاب القرى الحدودية في مارون الراس وعيتا الشعب وبنت جبيل..إلخ، وغرق بحرًا بالضربة المفاجئة والقاضية لـ"ساعر"، والتي حيّدت سلاح بحريته عن المعركة بعد يومين من بداية الحرب فقط، وخابت توقعاته الآتية من السماء، بسقوط مدوٍّ لنظرية القضاء جوًّا على حزب الله، النظرية التي تبناها رئيس أركان الاحتلال آنذاك، دان حالوتس، وهو أول من ارتدى البزة الزرقاء من سلاح الجو، وبنيت عليه الآمال حينذاك.
سبعة عشر عامًا، وقادة العدوّ يعدون الخطط ويطورون عقيدة جيشهم ويرسمون سيناريوهات الحرب القادمة، ويجهزون العدة والعديد عبر تطوير وشراء الأسلحة لمختلف الأذرع، من تعزيز الأسطول البحري عبر شراء أربع بوارج حربية من نوع "ساعر 6" وثلاث غواصات ألمانية الصنع لسلاح البحر، إلى صفقات شراء أسراب من طائرات F35 الأميركية المتطورة بما يفوق 10 مليارات دولار، ليصبح لدى سلاح الجو 75 طائرة من هذا النوع، إلى الشروع في تطوير منظومة "القبة الحديدية" لاعتراض الصواريخ عبر شركة "رافائيل" مباشرة بعد ستة أشهر من حرب تموز.
ولم تكد حرب تموز تنتهي، حتّى أطلق جيش الاحتلال برامج تدريبات ومناورات دورية وسنوية، على الأراضي المحتلة وخارجها (المغرب، قبرص..)، خصصت بمعظمها لمحاكاة حربٍ مع حزب الله، وطاولت مختلف أذرع وألوية الجيش من هيئة الأركان إلى ألوية النخبة "إيغوز" و"غولاني"، إلى سلاح الجو والبحر، وأقسام السايبر. لكن بعد كلّ هذا التجهيز والإعداد والتأهيل الذي شهده جيش الاحتلال طوال تلك السنين، وفي ظل الاختبار العملي الأول بعد طوفان الأقصى، هل تعلّم جيش العدوّ واستخلص العبر فعلًا من حرب تموز 2006 وأخذ بها؟.
لقد كشف طوفان الأقصى عن عقم عسكري لدى جيش الاحتلال الذي استهان بقوة أعدائه فلقنوه دروسًا لن ينساها، بانتقالهم من الدفاع إلى الهجوم، وتحطيم هيبته في ثلاث ساعات، ليجرف الطوفان كلّ مناوراته واستعداداته، رغم تعنت بعض قادته وعدم تسليمهم بالواقع الميداني المستجد، وإصرارهم على "تكبير الخسة برأس جيشهم"، بمواصلتهم التهويل والتهديد به، وفي خَلَدِهم أنه لا يقهر وأن أعداءه سيرتعدون ويسلّمون بجبروته. فمنذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 وعلى مدى عشرة أشهر إلى اليوم بدا جيش الاحتلال أوهن من بيت العنكبوت وأشبه بكيس ملاكمة تتقاذفه جبهات المقاومة والإسناد يمنةً ويسرة، لتطرح تساؤلات عدة:
أين مفعول "القبضة الساحقة" و"عربات النار"، و"السهم الأزرق" و"الحجر الرئيسي" و"جينفر كوبرا" وسواها من مناورات كان يجريها جيش الاحتلال لألويته وقوات النخبة لديه على مدى 17 عامًا؟!.
أين كلّ تلك التجهيزات الحربية لجبهة لبنان، من غواصات و"سواعر" ألمانية وطائرات حربية وقبب حديدية وفولاذية وليزرية، وقد ظهرت جميعها في الأيام الماضية في مرمى صواريخ ومسيرات حزب الله وهداهيده؟!
أين المنظومات الدفاعية والقبب الفولاذية التي تغنى بها جيش العدو؟ ألم تظهر كرتونية استعراضية لا حول ولا قوة لها أمام صواريخ حزب الله ومسيراته؟ ألم تتحول إلى أهداف في مصيدة حزب الله وتقع في شِراكه بسهولة؟!.
أين ما كان العدوّ يخوف به اللبنانيين كلّ عام؟ وها هو اليوم، عاجز عن تجاوز الحدود التي رسمها له ما كُشف عنه فقط من سلاح المقاومة حتّى الآن، أو القفز فوق الحدود التي رسمتها مفاجآت المقاومة المخبأة للمراحل القادمة؟!
هل هذا هو فعلًا الجيش الجرار الذي يهدّد ويرعد؟ وهل بمقدور جيش لا يصلح ليكون فزاعة أن يخيف ذوي العزم والإرادة وأصحاب ثقافة إما النصر أو الشهادة؟! كيف وهؤلاء الذين كانوا بضعة آلاف وفق إقراره بتقرير فينوغراد، صاروا اليوم أكثر من مئة ألف؟! كيف وصاروخا رعد وخيبر صارا اليوم بركانًا وفلقًا وزلزالًا والآتي أعظم؟!
عشرة شهور فقط كانت كفيلة بتدمير حزب الله خطوطَ دفاعهم عبر إفراغ معظم مستوطنات الشمال وخلق حزام أمني فيها، وبعدما اختفى جنود العدوّ عن الحدود وفروا إلى جحورهم كالفئران، وبعد أن هد الحزب كلّ التحصينات والجدران على رؤوسهم وفقأ أعينهم التجسسية برًا وجوًا، فأين العبر التي تعلمها العدو من دروس حرب تموز 2006، ومنها أهمية القوّة البرية لحسم الحروب؟ إذ يتضح بعد كلّ هذه السنوات أن جيش الاحتلال يهرب دومًا من الخيار البري ويعود للاعتماد على نظرية الجو الساقطة سلفًا، وفي ظنه أنه بها سيقضي على حماس أو حزب الله، ما يعني مجددًا أنه ليس بمقدوره خوض مواجهات برية مع فصائل المقاومة رغم كلّ المناورات التي أجراها ويجريها ورغم كلّ الأهازيج الحربية التي يجترُّها بين الحين والآخر.