عماد خشمان
لا يمر يوم دون الحديث عن مستوطنات الشمال "الإسرائيلية" والنزوح الحاصل فيها، وتكاد أن تكون القضية الأولى بعد قضية الأسرى في أيدي المقاومة في قطاع غزّة وتراها الشغل الشاغل لكل المستويات السياسية والعسكرية والأمنية "الإسرائيلية" التي وجدت نفسها أمام معضلة حقيقية بل أزمة وجودية لم يشهدها الكيان منذ تأسيسه قبل 76 عامًا، دفعت إدارة هذه المستوطنات إلى رفع الصوت والدعوة للانفصال عن الكيان واعتبار أن الحكومة "الإسرائيلية" تخلّت عنهم وأنها لا تفعل شيئًا لإعادتهم إلى بيوتهم ومستوطناتهم.
لطالما تحدث المعلقون والمحللون حول مجريات عملية طوفان الأقصى في قطاع غزّة والحرب التدميرية التي يخوضها العدوّ "الإسرائيلي" تجاه الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة في القطاع وتأثيرات الجبهات المساندة لها على طول دول المحور وقواه المختلفة ومنجزاتها تكتيكيًا واستراتيجيًا، وخاضوا في التفاصيل الميدانية ومجريات القتال والمواجهات والخسائر التي يتكبدها العدوّ يوميًا في الأرواح والعتاد والسلاح دون الالتفات إلى أمرٍ له من الأهمية مكان ويشكل تبدُّلًا في مجريات الصراع مع العدوّ ألا وهو النزوح الكبير والواسع الحاصل من مستوطنات شمال فلسطين المحتلة ليكون واحدًا من أهم المنجزات الاستراتيجية للمقاومة الإسلامية اللبنانية لم تحصل سابقًا في تاريخ الصراع مع العدوّ منذ إعلان نشوء الكيان الغاصب في العام 1948 وحتّى يومنا هذا وما مرَّ من حروبٍ كُبرى ومعارك بين الحروب خلال مراحل متعددة من عمر هذا الكيان المصطنع دون أن تتأثر تلك التجمعات الاستيطانية كما تأثَّرت الآن، حيث تعيش اليوم أوضاعًا دراماتيكية انهزامية غير مسبوقة جرَّاء النزوح والتهجير من الشمال نحو وسط "الدولة المزعومة"، وما نتج وينتج عنه من تداعيات على مختلف الصعد الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والتربوية والحياتية نتيجة العدد الهائل من النازحين والمطرودين من تلك المستوطنات والمغتصبات.
وبلغ عدد النازحين وفق تقديرات متفاوتة أقلّها مائة ألف نازح وأقصاها تقديرًا تحدثت عنه "وول ستريت جورنال" في عددها الصادر بتاريخ 30 كانون الأول/ديسمبر 2023 قائلةً: "ضربات حزب الله تُجبر نحو 230 ألف مستوطن على النزوح من الشمال". والسؤال الأهم كم أصبح عددهم الآن بعد مرور أشهر عديدة على تقرير الصحيفة المذكورة؟ وأيضًا وفق ما أفادت به في وقتها القناة "الـ13" "الإسرائيلية"، بأنّ الصهاينة في الشمال ينهارون. وتابعت وسائل إعلام العدوّ "الإسرائيلي" تقول: إنَّ المستوطنات التي جرى إخلاؤها – ما يقارب الــ 42 مستوطنة – تقع على الحدود الشمالية لم يجرِ إخلاؤها منذ العام 1948 (أي تاريخ قيام الكيان الغاصب على أرض فلسطين).
هذا النزوح بات يتسبّبُ بأزمة خانقة لحكومة الكيان بسبب الكلفة المالية العالية وحاجات النازحين اليومية، وشكّل ضغطًا على الواقع الاقتصادي برمّته بسبب إفراغ الشمال من سكَّانه والعاملين في مؤسساته ومصانعه الإنتاجية ذات التصنيع العسكري والتكنولوجي الحسَّاس والمراكز السياحية وبساتينه ومزارعه التي تعتبر جزءًا أساسيًا من السلَّة الغذائية للكيان ومستوطنيه، بالإضافة إلى الدور الاقتصادي الذي يلعبه هذا الشمال من مجمل موازنة الكيان المالية السنوية، هذا الاقتصاد المأزوم أصلًا بسبب الحرب الدائرة والحصار المُطبق من جهة البحر الأحمر الذي تفرضه القوى الثورية والجيش اليمني وقيادته الشجاعة تارة منفردة وتارة أخرى بالتشارك والتضامن مع المقاومة العراقية المجاهدة، ناهيك عما يعانيه هؤلاء الهاربون من أزمات "إنسانية" وأخلاقية أقلُّها الاعتداء والعنف الجسدي والاغتصاب والتمييز والتضييق، وأيضًا أزمة حادة في استيعاب من هم في عمر الدراسة والذين قد يفوق عددهم الـ 50 ألف طالب من مختلف الفئات العمرية والمراحل الدراسية وتشكّل ضغطًا هائلًا على المؤسسات التربوية المحيطة بأماكن نزوحهم غير المؤهلة أساسًا لاستيعاب هذا العدد الكبير والطارئ من التلامذة وفي مختلف المراحل، مما يزيدُ من قلق المستوطنين من العودة إلى بيوتهم في شمال فلسطين "متهمين الحكومة "الإسرائيلية" بالتخلي عنهم".
لا تزال تلك القضية تضغط على عقل وتفكير وخطط الحكومة "الإسرائيلية" وتتخبّط بها يمنة ويسرة سعيًا في معالجتها ولا توفر وسيلة ولا وسيطًا للعمل على ذلك، تراها ترعد وتزبد وتهدّد المقاومة وشعبها بالويل والثبور وعظائم الأمور وتعلن عن حشودات عسكرية واستقدام ما لا يقل عن أربع فرق بألويتها وكتائبها القتالية ومدرعاتها وطائراتها، تلك المقاومة الباسلة التي لم يرفَّ لها جفنٌ في هذه القضية جعلت تهديداتهم هباءً وخواءً تذهبُ أدراج الرياح دون طائل أمام إصرارها وصمودها، فالقرار واضح "أوقفوا الحرب على غزّة وشعبها، فلا أمن للصهاينة دون أمنٍ للفلسطينيين واللبنانيين على حدٍّ سواء".