محمد الحسيني
تصاعد الحديث مجددًا عن إمكان التوصل إلى تسوية سياسية - عسكرية قد تفضي إلى إنهاء العدوان على قطاع غزّة المستمر منذ ما يقرب من تسعة أشهر. وقد حملت مواقف رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو الأخيرة مرونة ملفتة للتعامل مع الطروحات الأميركية، وانعكست في الإعلان عن سقف زمني لإنهاء "العمليات العسكرية "الإسرائيلية" في غضون ثلاثة أسابيع" في رفح، وقابلته حركة حماس بإبداء مرونة إضافية بشأن الطروحات الجديدة للتوصل إلى إنهاء الحرب.
مأزق اليوم التالي
ويرجح محللون أن يعمد نتنياهو إلى اتباع سياسة التدرّج في المواقف، يبدأها بالموافقة على الطرح الأميركي بإعلان "نصر" كمقدّمة للخطوات التنازلية اللاحقة، إلا أن الذي يجدر التوقف عنده هو الخطوة التالية التي سيقوم بها لجهة ترتيب الوضع السياسي والعسكري والإداري للقطاع وفق الرؤية الصهيونية. وعلى الرغم من ذلك يواصل نتنياهو رفضه الحديث عن "اليوم التالي" لما بعد الحرب، ويماطل في حسم موقفه لعدة أسباب أهمها:
1 - افتقاده الحلول الواضحة والجذرية لحسم الوضع ميدانيًا، حيث تواصل المقاومة الفلسطينية استنزاف جيش الاحتلال بشريًا وماديًا ومعنويًا، وتنزل به الخسائر الكبيرة في المواجهات، خصوصًا في المناطق التي ظنّ العدوّ أنها لم تعد تشكّل أي خطر على جنوده وآلياته، ومعركة الشجاعية خير مثال على ذلك، لذلك يعمل نتنياهو على اجتراح شكل مختلف من التسوية يتيح له إدارة القطاع أمنيًا، ويكون فيه لـ"إسرائيل" اليد الطولى بشكل مباشر أو غير مباشر.
2 - افتقاده الطرف الفلسطيني الفاعل لإتمام مشروع إدارة قطاع غزّة بعد إنهاء الحرب، فعلى الرغم من إصراره على "تحقيق الانتصار الكامل" و"القضاء التام على حماس"، إلا أنه يذعن في ذاته باستحالة تحقيق هذا الهدف، وهذا ما صرّحت عنه جهارًا قيادات أميركية و"إسرائيلية" أمنية وعسكرية على حد سواء، فضلًا عن قناعته بأن السلطة الفلسطينية لا تمثل طرفًا مقبولًا لإدارة القطاع، وهذا ما عززته مواقف معظم العشائر الفلسطينية في القطاع التي رفضت التجاوب مع الطروحات الصهيونية في هذا السياق.
3 - كسب الوقت الذي يتيح له استكمال المنهج التدميري لقطاع غزّة لتحقيق هدف ديمغرافي، حيث يسعى إلى إرساء واقع عمراني جديد مختلف عن المرحلة السابقة، ولذا يعمد جيش الاحتلال إلى عمليات تدمير ممنهجة يتم فيها نسف مربعات كاملة وبطريقة شاملة وإزالة تامة للمباني والبنى التحتية في مساحات واسعة من مدن قطاع غزّة، فضلًا عن اعتماد القتل العشوائي والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني ليحوّل القطاع إلى مكان تنعدم فيه الحياة.
المقاومة الفلسطينية وأوراق القوّة
إلا أن الحقيقة الميدانية تفيد بأن اليوم التالي لغزّة يفترض النظر في اليوم التالي لتل أبيب، فإن نتنياهو خسر الحرب، ولم يحقق أهدافه المعلنة ولم يستطع القضاء على المقاومة الفلسطينية وحركة حماس بالتحديد، بل إن المقاومة، التي زلزلت "إسرائيل" في طوفان الأقصى وتواصل معاركها البطولية ضدّ ألوية وفرق جيش العدو، تمتلك الكثير من أوراق القوّة، وأهمها:
1 - عدم تأثر تشكيلاتها العسكرية بالعدوان الهمجي، فأعادت تشكيل مجموعاتها وتمكّنت من التكيّف مع الواقع الميداني المستجدّ وأكّدت على امتلاكها زمام المبادرة في الهجوم وصد العدوان.
2 - استمرار بقاء عشرات الأسرى من الجنود الصهاينة في قبضة المقاومة، ما يشكّل محطة فشل كبيرة لنتنياهو الذي بات الآن في مواجهة شريحة كبيرة من المجتمع الصهيوني.
3 - موقفها الثابت الرافض لأي تنازلات على حساب قضية الشعب الفلسطيني، وصمودها أمام الضغوطات الهائلة التي تمارس عليها من قبل الأطراف والوسطاء، ورفض المساومة على مستقبل قطاع غزّة.
ولذا فإن الانتصار الذي يغري به الأميركيون نتنياهو لإعلانه وما تسعى إليه واشنطن لإرساء حالة - حتّى لو كانت وهمية - يتم فيها وقف الحرب، ليس سوى محاولة للتغطية على الهزيمة التي مُني بها وحكومته بعد ما يقرب من تسعة أشهر من الحرب المستمرة في جبهتي الجنوب والشمال، فضلًا عن الإغراءات الأميركية الأخرى المتعلّقة بإعادة الإعمار على الجانبين اللبناني والفلسطيني.
معادلة التقدّم والتثبيت والانطلاق
أمّا على جبهة لبنان فقد حاول المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين ومن بعده الموفدون من الألمان والعرب - وكان آخرهم الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي - الحصول على موقف واضح من حزب الله تجاه التسوية والترتيبات المنتظرة بعد ثلاثة أسابيع، دون أن يفلحوا في ذلك، وقد كرّر نائب الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم موقف الحزب المبدئي من ربط الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، ليؤكد أن لا تهدئة في الشمال الفلسطيني طالما أن العدوان مستمر على قطاع غزّة، فالحزب يتصرّف حيال هذا الملف بصبر وهدوء ورويّة لأسباب كثيرة أولها عدم ثقته بالطرف الأميركي المنحاز قلبًا وقالبًا ومضمونًا إلى الجانب "الإسرائيلي"، ولذا فهو إلى جانب تفعيل جبهة النار بالشكل المناسب تصعيدًا وتخفيفًا، ينعم النظر في استكشاف مواقف الأطراف من جهة، وقراءة التطورات السياسية والميدانية المتلاحقة داخل المجتمع والمؤسسات السياسية والعسكرية الصهيونية من جهة ثانية، ويبني على الشيء مقتضاه.
ويوضح محلّلون أن موقف الحزب هذا من شأنه تقوية الموقف الفلسطيني، ليس فقط لجهة تفعيل الضغط لوقف العدوان بل أيضًا لتوفير أوراق قوة في رسم أي معادلة لقطاع غزّة والمقاومة الفلسيطنية وحركة حماس في مرحلة ما بعد وقف الحرب، وهذا ما يمنح المقاومة فرصة لتكريس نفسها كطرف أساسي في بلورة وترجمة القرار الفلسطيني المستقل، ولتثبيت موقعها المتقدم في خارطة الصراع، حيث تكون فيه قادرة على الانطلاق والفعل في أي تطوّر سياسي أو عسكري قد يطرأ في مرحلة لاحقة، على قاعدة التقدّم والتثبيت والانطلاق.
الخيارات "الإسرائيلية" المرّة
وفي الموازاة، تعتقد النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية بأن الذهاب إلى أي حرب مع حزب الله سيزيد الأمر تعقيدًا في المجالات كافة في الوسط "الإسرائيلي"، وتتّجه إلى ترجيح أفضلية التوصل إلى تسوية توقف الحرب اليوم، لأن أي اتفاق في المرحلة الراهنة سيكون أفضل بكثير من أي اتفاق بعد الحرب التي لا يملك أحد تصوّرًا واضحًا عن نتائجها، والتي لن تسفر سوى عن زيادة إضعاف "إسرائيل" والإمعان في تشتيتها وتمزيق النسيج الاجتماعي والتركيبة السياسية فيها، فضلًا عن الخسائر الباهظة التي ستمنى بها في المجالات الاقتصادية والتجارية والاستقرار المالي، وكلّ ذلك سيضاعف من الانقسام الداخلي واتّساع الهوّة بين مكوّنات المجتمع الصهيوني ما سينعكس حتمًا على أداء الجيش وتماسكه، وبذلك تفقد "إسرائيل" العنصر الأهم في الحفاظ على أمنها واستقرارها، وهذا بدوره سيعمّق من أزمة الشعور بانعدام الأمن وتكريس الخوف على المصير والقلق على الوجود.