علي عبادي
بعض الإعلام اللبناني "تقبرصَ" في الأيام الماضية ليس حُبًّا بقبرص، ولكن نكاية بفريق لبناني آخر. تحدّث عن "تهديد" موجّه من لبنان إلى قبرص، وعن "أزمة" بين البلدين. مَن هدّد مَن؟ قبرص التي تشرّع منذ سنوات مطاراتها وأراضيها لطائرات العدوّ وقواته في مناورات "تحاكي حربًا على لبنان"، وفقًا لتعبير وسائل إعلام العدو، أم المقاومة التي تحذّر سلطات قبرص من إفساح المجال أمام أي عدوان صهيوني يستهدف لبنان؟!
ما طرحه الأمين العام لحزب الله حول مسؤولية قبرص عن أي عدوان "إسرائيلي" ينطلق من أراضيها وأجوائها هو مسعى لاستباق أي مغامرة "إسرائيلية" في هذا الاتّجاه كثر الحديث عنها مؤخرًا، وهو تحذير صريح بلا مجاملات يستند إلى معطيات وليس إلى تخمينات افتراضية. ومعلوم أن قبرص ترتبط بعلاقات تنسيق عسكرية واستخبارية مع العدوّ تجلت في مناسبات عدة، كما توجد في الجزيرة قواعد ومطارات عسكرية تستخدمها القوات الأميركية والبريطانية، وربما يجري التصرف فيها من دون العودة إلى الحكومة القبرصية التي تتغافل عن هذه التحركات مقابل حصولها على الحماية من القوات الأجنبية، لكن هذا لا يلغي مسؤوليتها القانونية عما قد يحصل من اعتداء على أي بلد مجاور انطلاقًا من هذه القواعد. وخلال عملية "طوفان الأقصى" والعدوان الصهيوني على قطاع غزّة، تم استخدام هذه القواعد لنقل ذخائر للعدو والقيام بعمليات تجسس لمصلحته، وفق تقارير عدة.
موقع قبرص في منظار العدو
وانبرى بعض السياسيين و"المحللين" في لبنان للتعليق على الموضوع انطلاقًا من خلفية سياسية مغايرة، حتّى من دون فحص حقيقة المعلومات المنشورة سابقًا بهذا الصدد على الأقل. فقد تحدثت تقارير في السنوات القليلة الماضية عن تحضيرات "إسرائيلية" للحرب مع لبنان تأخذ في الاعتبار احتمال تعطل المطارات الحربية التابعة للعدو، ما يتطلب اللجوء إلى مطارات بديلة خارج الكيان. وأجرى جيش الاحتلال مناورات برية وجوية مع الجيش القبرصي على أراضي الجزيرة مرات عدة. وبررت وسائل إعلام العدوّ استخدام أراضي قبرص بسبب طبيعتها الجغرافية المشابهة لجنوب لبنان، علمًا أن طبيعة الجليل الفلسطيني والجولان السوري المحتلّين تُشابه طبيعة جنوب لبنان، وبالتالي فلا مسوّغ لنقل التدريبات إلى قبرص إلا لغاية أخرى أهمّ، وتتعلق خاصةً بتوفير قواعد آمنة وقت الحرب تنطلق منها عمليات عسكرية ضدّ الأراضي اللبنانية. وما يدعم هذا التفسير إشراكُ سلاح الجو "الإسرائيلي" في هذه العمليات، وليس فقط قوات البر، ما يستبعد ذريعة "تشابه التضاريس"، إضافة إلى نقل الجنود جوًا وإنزالهم إلى أرض المعركة. وأصبحت هذه المناورات سنوية، تارة تحت اسم "شمس زرقاء" تحاكي "حربًا على لبنان" في أيار 2023، وتارة تحت اسم "مركبات النار" في أيار 2022، علمًا أن مناورات مشتركة للجانبين أجريت أيضًا في الجزيرة عام 2017.
وتقع قبرص على مسافة تزيد على 250 كلم من شواطئ لبنان، لكنّها تشكّل قاعدة انطلاق مثالية للعمليات العسكرية الصهيونية بحرًا وجوًا في حال اندلاع الحرب مع لبنان، لماذا؟ لأنها بعيدة نسبيًا عن مسرح القتال بين لبنان وفلسطين، ويمكن للقوات الصهيونية أن تتّخذ منها مركز رأس هجوم بعيدًا عن القواعد داخل فلسطين التي ستكون تحت النار وقت الحرب.
الرد القبرصي والهمروجة الإعلامية
وجاء الرد القبرصي الرسمي على تحذير الأمين العام لحزب الله دبلوماسيًا، لكنّه لم يكن كافيًا. إذ اقتصر على تأكيد أنه "لن يتم منح أي دولة الإذن بإجراء عمليات عسكرية عبر قبرص"، بحسب المتحدث باسم الحكومة القبرصية، في حين أنه لم يُشر إلى قاعدتين بريطانيتين على أرض الجزيرة لا تملك الحكومة القبرصية الإشراف عليهما، وتشاركان حاليًّا في تقديم الدعم للغارات على اليمن والتجسس على قطاع غزّة. كما لم يتناول التنسيق القوي بين جيش الاحتلال والجيش القبرصي واستقبال قوات وطائرات "إسرائيلية" لإجراء مناورات مشتركة في ما مضى.
ويلاحظ أن الموقف القبرصي لم يذهب ناحية التصعيد الخطابي، لأنه يدرك أن الهواجس التي عبّر عنها الأمين العام لحزب الله واقعية، وليس من عادة الأمين العام أن يتحدث جزافًا في مثل هذه المواضيع، إذ يستند إلى معلومات يُبنى عليها.
اللافت في ما جرى أن الإعلام اللبناني المناوئ للمقاومة اتّخذ وضعية الدفاع عن قبرص في موضوع يتصل بحماية لبنان من "إسرائيل". لم يناقش هذا الإعلام بمختلف عناوينه وتسمياته صحة أو عدم صحة ما استند إليه تحذير حزب الله، بل انتقل فورًا إلى اعتبارا ما جرى "تهديدًا" و"ضربة قاسية للعلاقات الراسخة المميزة اللبنانية مع إحدى أقرب وأوثق الدول المجاورة للبنان"، وذهب إلى ترتيب نتائج خطيرة على العلاقات بين البلدين وبث شائعات عن إجراءات قبرصية ضدّ المواطنين اللبنانيين. وفات هذا الإعلام "الوطنجي" (ومعه إعلام التطبيع العربي) أن المسؤولين القبارصة لم يحققوا له ما كان يأمله من تصعيد دبلوماسي، خاصة لناحية استدعاء السفراء وتقديم احتجاج رسمي وما شاكل، ما سيعطيه مادة إضافية للتشهير بالمقاومة. وهذا يدل على أن بعض الإعلام اللبناني لا يهمّه دفع الخطر عن الخطر أو من أين تأتي الضربة "الإسرائيلية"، بل يدس رأسه في الرمال لأنه ليس معنيًا بتهديدات العدو، ببساطة لأنه.... ليس عدوًا!
فات هذا الإعلام "الوطنجي" الذي هبّ لمهاجمة الدولة اللبنانية لأنها لم تأخذ موقفًا ضدّ تحذير حزب الله، أن قبرص هي من يستضيف طيران العدوّ وقواته البرية ويشارك في مناورات معه على أرض الجزيرة، وهي بالتالي الطرف المطالَب بوقف أي إجراء يشكّل تهديدًا للبنان، كما أنها تَدين للبنان بتوضيح منذ سنوات، منذ أن أعلن العدوّ أن مناوراته المشتركة مع القوات القبرصية على الجزيرة المتوسطية "تحاكي حربًا على لبنان".
مغزى الرسالة
بعيدًا عن هذه الهمروجة الإعلامية التي تتلحف بالسيادة الوطنية ولا ترى في طيران العدوّ الذي يغزو سماء لبنان بأسًا، حقق تحذير حزب الله النتائج الأولية الآتية:
أولًا: وضعَ الحكومة القبرصية أمام مسؤولياتها في وقف أي خطط تهدف لاستخدام قوات أو طائرات "إسرائيلية" ضدّ لبنان انطلاقًا من قبرص. وبإمكان حكومة الجزيرة أن تضبط علاقاتها القوية مع العدو، ولو أنه من المشكوك فيه أن تستطيع الإشراف على عمل القواعد الأجنبية المقامة على أرضها بسبب تبعية قبرص للسياسات الدولية، وتحديدًا للمعسكر الأنجلو - أميركي. وفي كلّ الأحوال، وصلت الرسالة أيضًا إلى القوات الأجنبية التي تستخدم قبرص قاعدةً لعملياتها الحربية في المنطقة ولإمداد العدوّ بالدعم اللوجستي والاستخباري.
ثانياً: وضعَ تحذير السيد نصر الله العدوّ أمام المخاطر التي سيواجهها في حال قرر توسيع نطاق الحرب على الجبهة الشمالية، وهذا يعني أن أية إعادة تموضع في المنطقة خارج فلسطين المحتلة هي محط رصد ومتابعة من المقاومة ويمكنها أن تطاله بالوسائل المناسبة ومتى قررت ذلك. حتّى إذا كان العدوّ يفكر في إرسال طائراته الحربية إلى جزيرة قبرص للقيام بعملياته الحربية من هناك، فعليه أن يأخذ في الاعتبار أن المقاومة حسبت للأمر حسابًا. وتعمّد السيد أيضًا التذكير بإمكانية إغلاق البحر الأبيض المتوسط أمام العدوّ لما له من أهمية في عملياته العسكرية والتجارية، بعدما أُغلق البحر الأحمر عليه. وهذا تحذير غايته الردع ودفع مخاطر الحرب التي يلوّح بها العدوّ في وجه لبنان.
ثالثًا: يحتمل الخطاب تحذيرًا ضمنيًا لأطراف أخرى حليفة للعدو، لا سيما للجانب الأميركي الذي يملك خيار إيقاف "الإسرائيلي" إذا أراد ذلك.
أراد الأمين العام لحزب الله تضييق الخيارات أمام العدوّ قبل وقوع الواقعة، ودفعه لمراجعة خياراته الانتحارية التي قد يظن أنها ستسعفه في هذه المرحلة التي تضجّ بصيحات الحرب في المجتمع الصهيوني المأزوم. ومتى ما عُرفت مقاصد الخطاب، فلن يكون من الصعب إدراك أهميته. وهذا ما لفت انتباه العديد من الخبراء الصهاينة الذين أكدوا قوة العلاقة العسكرية والأمنية التي تربط قبرص بـ "إسرائيل"، وأشار بعضهم إلى أن السيد نصر الله ما كان ليطلق مثل هذا التحذير لو لم تكن لديه معطيات جدية.
وبالخلاصة، تستلزم إدارة الحرب أحيانًا رفع سقف الخطاب لدفع الخطر بأقل كلفة. وهذا ما لا يفهمه أو لا يريد أن يفهمه المتربصون بالمقاومة شرًا. أما العدوّ فقد تلقّف الرسالة وبدأ فك شيفرتها.