منهال الأمين
تُعرف مواقف الإمام الخميني(قده) بالحزم والدقة، حتّى قيل فيه إنه صارم جدًا، والبعض رأى إليه على أنه قليل الابتسام تبعًا لهذه الجدية في التعامل. ودعونا من هذا التجني للتركيز على تصرفات الإمام ومواقفه قبال كلّ الأحداث والاستحقاقات التي مرت بها الثورة الإسلامية حتّى قبل انتصارها.
من منطلق عقائدي، يسمّى فعل الإمام بالتسليم؛ أي أن المؤمنين في كلّ ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال ومشاعر وأحاسيس إنما يرون الله عز وجل قبله وفيه وبعده.
ولكن، لو أردنا الوقوف عند هذه المنهجية الخمينية من وجهة نظر العمل السياسي، لوجدنا فيه الكثير مما عز وجوده لدى الكثير من أهل السياسة، فضلًا عن أهل العلم والسير والسلوك.
نجد أن عزيمة الإمام لم تفتر يومًا، فمع بلوغه العقد السادس من العمر كان يعلن الثورة على نظام الشاه، بعد سنوات طويلة من مقارعة هذا النظام وأركانه وجلاوزته ومخابراته، حتّى حكم عليه بالإعدام، ولم ينفذ الحكم بسبب خوف نظام الشاه من ردات الأفعال الحوزوية والشعبية. وفعلًا، وقّع علماء النجف وقم عريضة تعدّ الإمام الخميني مجتهدًا، وهذا ما منع تنفيذ حكم الإعدام.
وقد شهدت تلك الفترة من ستينيات القرن الماضي، سلسلة من الأعمال الإجرامية والتفجيرات والاغتيالات والاعتقالات التي طالت كلّ من كان يمت للإمام بصِلة. ولعل أبرز تلك الأحداث الدامية مجزرة المدرسة الفيضية بتاريخ 22 آذار 1963، التي ذهب ضحيتها العشرات من طلاب العلوم الدينية، فما كان من الإمام إلا أن توجه إلى المدرسة وألقى خطابًا ناريًا ضدّ الشاه، فألقت سلطاته القبض عليه وزجته في السجن.
وتعد حادثة الفيضية محطة مؤسِسة في التحضير للثورة الإسلامية في إيران، ليواصل الإمام ثورته، بين المنافي، تهدأ الحركة فترة ولكنه لا يهدأ، من تركيا إلى الكويت إلى النجف إلى فرنسا...
في النجف، اغتيل ابنه البكر، السيد مصطفى، واتُّهمت بالعملية أجهزة الشاه (السافاك)، إلا أن الإمام تعامل مع الأمر بكلّ رباطة جأش، حتّى إنه وصف الأمر باللطف الإلهي!
تمر أيام النفي بما فيها من تهديد يحيط بحياة الإمام أينما ولى وجهه، ليبزغ فجر الأول من شباط الذي شهد بداية انتصار الثورة في العام 1979، لتبدأ معه سلسلة من الاختبارات الصعبة والخطيرة التي مرت بها الثورة، بدءًا من إرهاصات تثبيت منهجها في الحكم، إلى القلاقل الداخلية التي أثارها بعض المشاركين فيها، أو الذين بدوا وكأنهم يتسلقون على أكتافها للوصول إلى السلطة كبني صدر وحزب توده وغيرهما. والإمام راسخ ثابت لا يجاري ولا يجامل. لغته مباشرة وواضحة ولا تورية فيها، يسمي الأشياء بأسمائها وكذلك ينسب إلى الأشخاص أفعالهم. ولم يجد غضاضة في إقالة أول رئيس للجمهورية الإسلامية، أبو الحسن بني صدر، المنتخب حينها بأغلبية مطلقة من الشعب، ذلك أن حسابات هذا الأخير لم تكن ولائية.
ثم تتوالى سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات التي تطال كبار المسؤولين والعلماء وأئمة الجمعة وأنصار الثورة، بدأت بحكيم الثورة آية الله الشيخ مرتضى مطهري (1/05/1979) بعد أقل من 3 أشهر على انتصار الثورة، وآية الله السيد محمد حسين بهشتي مع العشرات في تفجير مقر الحزب الجمهوري الإسلامي (28/06/1981). بهشتي الذي كان يوصف بأنه الرجل الثاني في الثورة، وكان الإمام يقول عنه إنه "أمة في رجل"، ثمّ محاولة اغتيال السيد القائد الخامنئي، حين كان إمامًا لجمعة طهران (27/07/1981)، إلى الرئيس المنتخب حديثًا محمد علي رجائي ورئيس وزرائه الشيخ باهنر داخل مكتب الأخير مع ستة آخرين (30/08/1981)، إلى عضو مجلس الخبراء وممثل الإمام في محافظة فارس آية الله السيد عبد الحسين دستغيب (11/12/1981)، بالإضافة إلى عشرات الأعمال التخريبية ومحاولات الاغتيال والتفجيرات. وكان سبق هذا العام الدموي اندلاع الحرب المفروضة مع نظام صدام حسين في العراق (استمرت من أيلول/سبتمبر 1980 حتّى آب/أغسطس 1988)، المدعوم غربيًّا وعربيًا، خاضتها حكومة الجمهورية الإسلامية الفتية المعزولة دوليًا وعربيًا إلا من بعض الحلفاء.
ومع كلّ هذا الاستنزاف والعدوان والمؤامرات والعزلة والحصار، وهذا الأخير مستمر بكلّ قسوة وإجحاف حتّى تاريخ اليوم، فتحرم البلاد من أقل الإمكانيات التي تحتاج إليها في تطوير أسطول طائراتها المدنية على سبيل المثال... مع كلّ هذا الضيم شقت الجمهورية الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني طريقها، الذي كان يصفه الإمام بذات الشوكة، بكلّ عزيمة وبأس، شعارها لا شرقية ولا غربية، مخالِفةً الأنظمة والمناهج السياسية في العالم، حتّى الثورية منها، التي كانت ترى إلى الاتحاد السوفييتي السابق على أنه قد يكون حليفًا مفترضًا، كونه النظام الشيوعي الاشتراكي المناهض لإمبريالية الولايات المتحدة ورأسماليتها المتوحشة.
كان منهج الإمام مقارعة الاستكبار العالمي والدعوة إلى وحدة المستضعفين في كلّ العالم، في مواجهة أنظمة الغرب والشرق، طالما كانت الهيمنة مسار أنظمتها مهما كانت خلفياتها السياسية والعقائدية، بدءًا من اقتحام السفارة الأميركية واحتجاز طاقمها (04/11/1979 حتّى 20/01/1981). وحين حاولت الولايات المتحدة تحريرهم في 25/04/1980، في ما عرف بـ"عملية مخلب العقاب"، عبر هجوم عسكري مباشر، كان رد الإمام بأن للثورة ربًّا يحميها، ولم تمض ساعات إلا والقوات الغازية تتلقى ضربات الطبيعة في صحراء طبس وتؤول العملية إلى الإخفاق الذريع، إلى تحويل سفارة الكيان الصهيوني إلى سفارة لفلسطين (اهتمام الإمام بفلسطين سابق على هذا التاريخ بكثير، إذ أفتى بإمكانية دفع الحقوق الشرعية للمقاومة الفلسطينية بعد انطلاقتها في منتصف الستينيات)، متّخذًا موقفًا مبدئيًا ضدّ الكيان الذي وصفه بالغدة السرطانية التي يجب أن تزول من الوجود، وأطلق تأسيس جيش العشرين مليون لتحرير القدس، وأعلن تخصيص يوم عالمي لنصرتها وتذكير العالم بهذه القضية الحقة، ومظلومية الشعب الفلسطيني، ووجّه مؤسسات الثورة لتقديم كلّ دعم له. وفي العام 1982 حين اجتاح الكيان لبنان، أرسل الإمام طلائع الحرس الثوري الإسلامي، ليدعم نواة انطلاق المقاومة الإسلامية التي حققت الانتصار بعد أقل من عقدين بفضل حزم الإمام الخميني وتوجيهاته لقيادة المقاومة في حينها، وأخبر الوفد الأول بأن مرحلتكم كربلائية وعليكم أن تقاتلوا بهذه الروح. وبعد سنوات قليلة قال كلمته الشهيرة: إن جهاد مسلمي حزب الله لبنان حجة على علماء المسلمين في العالم.
مر عقد من الزمان، رست فيه الثورة على شاطئ الأمان الأول، والثبات المبدئي، ووجود مؤسسات فاعلة وقوات مسلحة قادرة وروح ثورية وتعبوية، ونهضة علمية واعدة. رحل الإمام بعد أن أعد استمرارًا للمنهج، لا خليفة ولا وريثًا ولا محظيًا ولا حتّى يكفي أن يكون عالمًا كبيرًا، كآية الله الشيخ حسين منتظري، الذي احترم الإمام رأي الخبراء في اختياره خليفة للقائد، في ما أظهرت الأيام ما كان الإمام يستشرفه من مآزق يكتنفها هذا الاختيار.
ومع وجود شخصيات مؤثرة وأساسية، لم يكن أقلها الرئيس الراحل الشيخ هاشمي رفسنجاني، كان الإمام حاسمًا في الميل نحو شخصية تتسم – مثله –بالحزم وأصالة المنهج، فكان رأيه في آية الله السيد علي خامنئي بأن لا خوف على الثورة والجمهورية طالما هو فيكم.
استعدت هذا الشريط من الأحداث منذ يومين حين بدأت الأخبار المؤسفة والمفجعة تتوالى عن مصير الرئيس السيد إبراهيم رئيسي والوفد المرافق. كمراقب، وخصوصًا إن كان محبًا، قد يتسلل إلى المرء الشعور بالخسارة العظيمة، وربما سيطر عليه وأحبطه، ولكن، تمامًا مثلما كان وجود الإمام الخميني في بداية الثورة يلتف على كلّ شعور بالأسى والحزن والفقد والخوف، بعد كلّ تلك الأحداث المهولة التي تهد الجبال فعلًا، فبمجرد أن يطل الإمام بعد كلّ حدث كان يبعث الشعور بالأمل نتيجة التسليم الذي يتسم به منهجه، الذي استحال منهجًا لأمة لا مجرد منهج شخص. هذا الاطمئنان هو نفسه تراه بقوة الحضور والتسليم، حين يطل هذا الإمام - السيد الخامنئي - في عقده التاسع، فتيًا راسخًا باسم الثغر، رحيمًا بالمؤمنين والمستضعفين شديدًا على المستكبرين وأذنابهم. هذه إيران المنهج المحمدي الأصيل، كما أسماه الإمام الخميني وسلمه إلى ثقته الإمام الخامنئي، وسيستمر بعين صاحب هذه الدولة عجل الله فرجه الشريف.