سامر حاج علي
لو كنت مكان ضباط قيادة المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال لفكرت مليًّا في التوقف عن متابعة مهامي، وكنت بعد المشاهد التي عرضها الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية ليل الأحد، وتضمنت استهداف موقع راميا، غادرت مقرّ عملي إلى مكان بعيد عن هذه البلاد.
هذه خلاصة ما يجب أن يدور في بال هؤلاء الذين حوّلتهم قيادتهم إلى أكياس رملٍ لحماية نفسها من أي طوفان يشكّل أحد مصاديق النبوءة التي تؤمن بها: من الشمال ينفتح الشر على كلّ سكان هذه الأرض!
أكياس الرمل هذه، هي عبارة عن تشكيلات عسكرية يعرفها ضباط القيادة في جيش العدوّ اليوم فقط، وقد استخدموها سابقًا خلال فترة احتلالهم للبنان، وكانت تتشكّل من ضباط وجنود جيش العميل لحد الذي انهار تحت أقدام مجاهدي المقاومة الإسلامية في العام ألفين، وتركه رعاته لمصيره فتلاشى كتشكيل منظّم قادرٍ على المواجهة، ولن يكون "بالنتيجة التراكمية" مصير من يخدمون في الفرق "الإسرائيلية" المنتشرة على حدود جبهة لبنان اليوم، أفضل من مصير أكياس الرمل السابقة، خاصة بعد ما سوف تظهره نتائج العمليات التي تنفذ هناك منذ قرابة الثمانية أشهر، وإحداها عملية الإغارة بالنار التي نُفذت في موقع راميا، والتي سنحاول الإحاطة هنا ببعض التفاصيل المتعلّقة بها لإيصال رسائلها لمن لم يفهمها بعد.
وغَوصًا بما وراء مشاهد الأحد، وفي المعطيات الميدانية، فقد نفذ مجاهدو حزب الله، يوم السبت، عمليتهم بالإغارة على موقع راميا المعادي من جواره تمامًا، ومن مسافة 300 متر ضربوا بالصواريخ المباشرة والموجهة تحصيناته وحاميته فيما دمروا آلية عسكرية كانت تختبئ داخل أحد المواقف المحمية في وسطه، قبل أن يعاودوا بعد وقت من ذلك قصفه بالأسلحة المدفعية في عملية مرتبطة وإن كانت بدت منفصلة في بيان الإعلام الحربي. وأن نقول إن العملية نفذت من هذه المسافة، فنحن نتحدث عن وصول المقاومين إلى النقطة صفر من حافة الموقع، وقد أظهرت المشاهد تحركهم بكلّ هدوء واتّخاذهم وضعيات الرماية والإطلاق بحرفية لا غبار عليها، وما كان ينقص فقط هو الالتحام المباشر مع من بقي في الموقع من جنود ثمّ إعلان تطهيره، ولكن، كل شيء محسوب بدقة في توقيت المقاومة!
وموقع راميا المسمى أيضًا بموقع ضهر الجمل، تتموضع فيه قيادة سرية تابعة لكتيبة "زرعيت" في جيش الاحتلال، ويقع عند الحدود الجنوبية للبلدة، ويستقر على جبل يشكّل عارضًا جغرافيًّا حساسًا يخوّله الإشراف بالرؤية والنار على عدة قرى وطرق ومسالك إلزامية، فإلى راميا يشرف الموقع على أطراف دبل والقوزح وعلى الأجزاء الغربية والشمالية لبلدة عيتا الشعب وأطرافها المتصلة من خلة وردة إلى حدب عيتا وصولًا إلى أحراج الراهب مشكلًا مع مواقع العدوّ هناك سلسلة أمان وحماية تستكمل في الجهة الغربية منه مع موقعي أبو دجاج وثكنة "زرعيت"، ما يعني أننا أمام موقع يشكّل عقدة وصل في منطقة لطالما كانت ركنًا أساسيًا في عمليات التقدم المعادية باتّجاه الأراضي اللبنانية كما حصل في تموز الألفين وستة عندما تقدم العدوّ من خلة وردة باتّجاه دبل ورشاف ووادي العيون، أو عندما اختار التقدم من محيط "زرعيت" باتّجاه مرتفع بلاط ومروحين وصولًا إلى البياضة.
أما على صعيد إجراءات الأمان والحماية التي يتمتع بها الموقع، إضافة لجغرافيته التي تمنحه القدرة على صد أي هجوم ضدّه، خاصة مع وجود منظومات الجمع الحربي وتجهيزات التجسس والتنصت والرادارات الخاصة بكشف الحركة المثبتة فيه، فقد نفذ العدوّ في محيطه قبيل الحرب أعمال تجريف وتحصين منها الجدار الإسمنتي الذي يلفه من كلّ الجهات، مع جدار آخر شكل عامل أمان مزدوجًا في أماكن محدّدة. هذا كان قبل الحرب، وما أضيف خلالها من رفع أجهزة جديدة فوق رافعات عالية، وغارات نفذها الطيران الحربي على الأماكن التي توقّعَ العدوّ العمل منها ضدّ انتشاره المعادي لا سيما "ضهر الجمل" عززت من عوامل أمانه لا سيما القصف المركّز الذي شّن أكثر من مرة على منطقة رويسة الحلواني الواقعة غرب موقع راميا تمامًا.
كل هذه الإجراءات نضيف إليها عوامل اعتُبر معها كلّ مجاهد يتوجه للعمل في الجنوب مقاومًا استشهاديًّا، ومنها الإطباق بالرؤية والنار التي يتمتع بها العدوّ على طول الحافة نظرًا لكون تموضعاته ومواقعه تتّخذ من التلال العالية والفاصلة بين لبنان وفلسطين مرتكزًا لها، ولامتلاكه أسرابًا من الطائرات التجسسية الفائقة التقدم تقنيًا وعلميًا واستخدامه لبرامج الذكاء الصناعي التي تربط بين صور المسيرات والأقمار الصناعية ومنظومات التجسس والكاميرات المثبّتة وبرامج التنصت والاستعلام وغيرها، ضيق مساحة العمليات التي تحد من إمكانية الحركة وتجعلها مكشوفة في غالبية الاحيان لا سيما بعد افتعال العدوّ للحرائق في الأحراج والكروم وكشفها تمامًا أمامه، محدودية الأهداف العلنية التي يمكن للمقاومة ضربها عند الحافة ما جعل أي عمل ناري تجاهها متوقّعًا من قبل العدوّ المتأهب للتعامل عبر استهداف أماكن الإطلاق بالمدفعية والدبابات أو بالمسيرات والطائرات الحربية، معرفة العدوّ للمنطقة التي خبرها ويعرفها جيدًا بعد أن شكلت منطقة عملياته وانتشاره في زمن الاحتلال، تحييد المقاومة للأماكن العمرانية في عملياتها، اتّخاذ العدوّ على مستوى التكتيكات العسكرية قرارًا بمنع أي أشكال الحركة في مجموعة من النقاط الحدودية التي يتوقّع أن تكون مرتكزًا لعمليات التقدم باتّجاه المواقع أو أبعد من ذلك، وربما كان منها ما نفذه في محيط موقع راميا في الأسابيع الأخيرة من غارات عنيفة بالطيران الحربي حوّل معها الأحراج إلى أرض محروقة لا تصلح بنظره لأعمال الهجوم أو الدفاع، ولكن المفاجأة كانت تكمن هذه المرة كما تكمن دائمًا في ما هو غير متوقّع، إذ حمل مجاهدون من المقاومة الإسلامية قبضاتهم وصواريخها ووصلوا إلى مشارف الموقع وهاجموه، مع العلم أنهم كانوا يستطيعون - وفق الإمكانيات التي كشفت عنها معركة طوفان الأقصى على جبهة لبنان حتّى الآن، ووفق ما كشفته مشاهد الإعلام الحربي التي بُثت لعملية راميا - ضرب الموقع من مسافة كيلومترات.
وللضرب من مسافة صفر تحليلات جمّة بات لزامًا على العدوّ الغوص في وقائعها والاستفادة من عِبَرها، فالمقاومة التي تستطيع رغم كلّ إجراءاته الوصول إلى المكان المذكور، تملك بكلّ تأكيد القدرة على تجاوز توقعاته، إن كان على مستوى الهجوم المستمر منذ الثامن من أكتوبر، أو حتّى في الدفاع الذي نفذت إحدى صوره بضرب قوة من غولاني كانت تحاول التسلل في خربة "زرعيت" قبيل أسابيع، وأخرى في تل إسماعيل من بعدها، والعين ساهرة.. واليد على مقبض النار!