محمد أيوب
إنّ ما يجري في الجامعات الأميركية، منذ 18 نيسان/ أبريل، من تظاهرات طلابية احتجاجية ضدّ السياسة الأميركية الداعمة لفلسطين وحريتها والمطالبة بوقف حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين في غزّة، وما قابله من رد فعل السلطات ضدّ المتظاهرين السلميين اعتقالًا وعقوبات، وفضًّا للاعتصامات بالقوّة العسكرية، يؤكد عدة حقائق انقلابية، أهمها ما يمسُّ الوعي الشعبي والثقافي الأميركي؛ بل انسحب إلى الشارع الغربي، وكسر القيود التي حاكت حلقاته السردية الغربية - الإسرائيلية لعقود، بشأن مجريات الأحداث والسياق التاريخي للقضية الفلسطينية وانعكاسها على الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية.
مشاهد الاعتقالات للمشاركين في الحركة الطلابية والشعبية التي شملت أكثر من 900 شخص في أكثر الولايات، لمجرد التعبير عن الرأي والإدلاء بموقف حرّ تجاه القضية الفلسطينية، وصور الإبادة الجماعية في غزّة، كفيلة بسقوط المبدأ الأساس لرأس هرم النظام الأميركي، فقد ظهر للعيان وعلى الهواء بأنّ واشنطن تقمع صوت جورج واشنطن الزعيم التاريخي الأميركي المؤسس الذي قال: "إذا سُلبنا حرية التعبير عن الرأي، فسنصير مثل الدابة البكماء التي تُقاد إلى المسلخ".
ورفضًا لقيام النظام بسوقهم إلى المسلخ، اجتاحت موجة احتجاجات طلابية على الحرب في غزّة عددًا كبيرًا من الجامعات والكليات الأميركية، بدأها طلاب جامعة كولومبيا في نيويورك الذين دعوا إدارتها إلى وقف تعاونها الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية، وسحب استثماراتها في شركات تدعم احتلال الأراضي الفلسطينية، وقد عمدت السلطات إلى فضِّ الاعتصام بالقوّة بالآليات والقنابل المسيّلة للدموع والرصاص المطاطي.
ومع تدخل قوات الشرطة واعتقال الطلاب، توسّعت حال الغضب لتمتد المظاهرات إلى عشرات الجامعات في الولايات المتحدة، منها جامعات رائدة مثل هارفارد وجورج واشنطن ونيويورك وييل وكارولينا الشمالية ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا. ولاحقًا، اتسّع الحراك الطلابي الأميركي غير المسبوق في دعم فلسطين إلى جامعات أخرى، في دول مثل: فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، كندا، أستراليا واليابان. كما دعا اتحاد الحريات المدنية للجامعات الأميركية، بالرغم من موقفه المحابي للسلطات الأميركية بالتحذير من استخدام عبارات "معادية للسامية"، إدارات الجامعات إلى ضرورة ترك مجال واسع للطلاب للتعبير عن أنفسهم.
في ما حذّر متحدث باسم مؤسسة الحقوق الفردية الأميركية من أن استدعاء الشرطة ينطوي على مخاطر، ويقوض الثقة بين الجامعات والطلاب، وقال لشبكة "سي إن إن" إن استدعاء إدارات الجامعات الشرطة المسلحة إلى الحرم الجامعي سيكون ذكرى مظلمة. وفي ما انتقد عدد من السياسيين قمع التظاهرات، بينهم السيناتور الأميركي تيم كين الذي ندّد باستخدام الحرس الوطني في التعامل مع احتجاجات الجامعات الداعمة لفلسطين، كان الرئيس "الديمقراطي" جو بايدن، والذي ضاعفت إدارته دعمها المادي لـ"إسرائيل"، ينتقد المتظاهرين، واصفًا الاحتجاجات بالـ"معادية للسامية". كما وصف الطلاب وهيئات التدريس المشاركة في الاحتجاجات بأنهم لا يفهمون ما يحدث مع الفلسطينيين. كذلك انضم المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب إلى بايدن واصفًا الاحتجاجات بأنها فوضوية.
وأيضًا استخدم رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون شمّاعة "معاداة السامية" وبثّ الكراهية في وصف الاحتجاجات، داعيًا إلى قمعه في مساره، بل ودعا إلى اعتقال أولئك الذين يرتكبون هذا العنف؛ وفقًا لتعبيره.
ويظهر من تباين مواقف رأس السطة السياسية في واشنطنن والمضمون السياسي للتحركات الطلابية الاحتجاجية الأميركية، تعمّق الشرخ بين طبقة المثقفين الأميركيين وبين قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حدٍّ سواء، اللذين يتناوبان تاريخيًا على السلطة وإدارة البلاد. وظهر هذا الشرخ جليًّا في الشعارات واللافتات والتصريحات الطلابية لأساتذة ومثقفين وفنانين. ففي مدينة نيويورك حيث جامعة كولومبيا المرموقة، والتي يقطنها مليونا يهودي أميركي من أصل عدد سكانها التسعة ملاييين، رُفِعت لافتات كثيرة ودعوات لإنهاء الإبادة الجماعية ووقف سياسة الفصل العنصري بحق الفلسطينيين، ومطالبة الولايات المتحدة بإنهاء دعمها لـ"إسرائيل"، كما هتف المتظاهرون ورفعوا لافتات تطالب بالحرية لفلسطين وتحريرها من النهر إلى البحر.
وحتّى اليوم لم تنته هذه التظاهرات الحاشدة، لكنّها وإن انتهت بعد وقف الحرب على غزّة، فهي ستشكّل عامل ضغط مستقبلي على الطبقة السياسية الحاكمة التي عليها إعادة حساباتها قبل أن تترجم في صناديق الإقتراع، ليس في الانتخابات الرئاسية؛ بل في الانتخابات التشريعية والمحلية والحزبية كافّة. وهذا ما أشارت إليه النائب الديموقراطية عن ولاية جورجيا رؤى رمّان، والتي أكدت أنه لا يوجد أي مجال لمعاداة السامية في الحَراك الطالبي، محذّرة من النتائج المستقبلية لقمع الحريات الطلابية، وقالت: "عندما نخسر الشباب، فإنّنا لا نخسر أصواتهم في صناديق الاقتراع فحسب، بل إنّنا نخسر تلك الأصوات في العملية الانتخابية برمّتها".
وفي مداولات إعلامية عن معهد الشرق الأوسط ألمحت إلى أنه، في حين أن دعم "إسرائيل" ما يزال أمرًا مقدسًا في واشنطن، مع زيادة حزمة المساعدات لها، فإنّ الضوء يُسلَّط على وجود فجوة كبيرة بين الكونغرس والناخبين العاديين، بما في ذلك أولئك الذين يحتجون حاليًا في الكليات في جميع أنحاء البلاد. وقال سينا توسي الباحث في مركز السياسة الدولية: إنهم يدعون جميع الأطراف الأخرى في المنطقة إلى ضبط النفس، بينما يشجعون الإسرائيليين على القيام بأعمال مع الإفلات التام من العقاب.
وليس بعيدًا عن تداعيات طوفان الوعي في أميركا، فإنّ "إسرائيل" باتت تستشعر هذا الخطر، وحذّر وزير الاقتصاد في الحكومة الإسرائيلية نير بركات من أن الرأي العام الأميركي يمثّل تهديدًا وجوديًا لـ"إسرائيل".
وقد عبّرت المرجعية الإعلامية الأميركية شبكة الـ "سي إن إن" عن تفاقم القلق والإحباط اللذين يساوران الشباب الأميركي، وأبدت الخشية من امتداد حركة الاعتراض الطلابية في الجامعات إلى ما هو أوسع ممَّا يدور في الشرق الأوسط، في إشارة إلى التململ العام من النظام السياسي الأميركي. ولفتت الشبكة إلى تخلّف بايدن عن ترامب بنحو 11 نقطة في أوساط الناخبين الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا، وفقًا لنتائج استطلاع للرأي أجرته خلال الأسبوع الجاري، فضلًا عن تنامي مستويات معارضة الشباب الأميركي لنهج بايدن حيال غزّة إلى حدود 81%، و53% في أوساط الناخبين الديموقراطيين، لتخلص إلى القول: إن الأمر ينطوي على تهديد كبير لحملة الرئيس جو بايدن.
ولا يخفى على أحد أن النظام السياسي الأميركي وارَبَ كثيرًا في استخدام حرية الرأي والتعبير للسيطرة على وعي الشعوب، وبالتالي السيطرة على دول أخرى وثروات شعوبها، بل واستبدال أنظمة لتصبّ في خدمتها. وهو الذي سعى إلى تفريغ التزامه حيال حرية الرأي والتعبير من مضمونه، في كثير من الأحيان، وغضّ الطرف عن الجرائم المرتكبة بحقها، في بقاع مختلفة من العالم، طالما كانت تصدر عن أنظمة سياسية موالية وصديقة في أحيان أخرىز وفي الوقت نفسه كانت تستثمر حادثة صغيرة هنا أو هناك، لتسلط الضوء عليها بدائرة واسعة تحت مسمّى حرية الرأي والتعبير، بل وتكون شريكة في افتعالها بأساليب أمنية وغيرها، وذلك من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية مباشرة وغير مباشرة، بهدف إرضاخ هذا النظام أو ذاك.
وللمرّة الأولى يقف النظام السياسي الأميركي اليوم، عند حافة معركة وعي جديرة، أسقطت استراتيجية كي الوعي الغربية – الإسرائيلية، فهو يقف أولًا أمام المثقفين والطلاب وباقي شعوب العالم، عاريًا تمامًا من ورقة التوت، بعيدًا جدًا عن شعاره "الاستثماري" حرية الرأي والتعبير، ساقطًا لا يلوي على شيء، وربما يحتاج إلى سنوات بل عقود لترميم صورته الرمزية الداخلية قبل كلّ شيء، فضلًا عن فقدانه فعّالية التأثير لسياساته الخارجية، بعد أن فقد رسميًا وفعليًا رأس حربتها، في إثارة ما يسمّيه ثورات حرية الرأي والتعبير، واستخدامها في إطار كلمة حقٍّ يُراد به باطل، لتنكشف أكثر غرضية مشعل الحرية المتّقد عصًا غليظة، داخليًا هذه المرّة، بعد أن كان يعبر به من خلف البحار إلى أرجاء العالم، ليؤدّب به من يشاء وكيف يشاء ويزكّي من يشاء.