شارل أبي نادر
بالرغم من وجود الكثير من الخلافات والانقسامات بين بعضهم البعض حول أغلب الملفات الأساسية الداخلية، وتحديدًا المرتبطة بالعدوان على غزّة، مثل ملف تبادل الأسرى أو ملف التعامل مع الجبهة الشمالية، يُجمع أغلب مسؤولي كيان الاحتلال النافذين منهم، وخاصة أعضاء حكومة الحرب، على ضرورة تنفيذ عملية هجوم واسعة على مدينة رفح، مدّعين أنها الوحيدة التي يمكن - لو انتصروا فيها - أن تعوض ما خسرته "إسرائيل" في طوفان الأقصى، وأنها قد تكون الفرصة الوحيدة المتبقية لهم كي يحققوا، ولو جزئيًّا، الأهداف الرئيسة من عدوانهم على غزّة.
صحيح أن "إسرائيل" تلقى - في الظاهر - معارضة شديدة من الإدارة الاميريكة وتحديدًا من الرئيس الأميركي جو بايدن، في ما خص العملية وإطلاق نتنياهو لها قبل حصوله على موافقة مسبقة من هذه الإدارة، الأمر الذي نتج عنه اتّخاذ الأخيرة قرارًا غير مسبوق في تاريخ العلاقات بين الطرفين بوقف شحنة أسلحة أميركية أساسية للمعارك التي يخوضها الكيان حاليًّا، في غزّة أو على جبهته الشمالية مع حزب الله، ولكن، دائمًا كانت مصلحة "إسرائيل" العليا وأمنها وحمايتها، بالنسبة للإدارات الأميركية المتعاقبة أو المختلفة بين ديمقراطيين وجمهوريين، فوق كلّ اعتبار وحجر أساسي من مداميك الأمن القوميّ الأميركي.
انطلاقًا من ذلك، لا يمكن فهم التباين الحالي في الموقف بين واشنطن وبين "تل أبيب" حول عملية الأخيرة في رفح، إلا أنها تبادل أدوار ومناورة مستترة، تخفي وراءها جملة من الأهداف والمعطيات، يمكن الإضاءة عليها كالتالي:
أولًا لناحية وقف شحنة الأسلحة الأميركية لـ"إسرائيل"، والتي ادعت واشنطن أنها أوقفتها مؤخرًا، والتي تتضمن 1800 قنبلة زنة ألفي رطل، و1700 قنبلة زنة 500 رطل، بالإضافة إلى 6500 قذيفة قادرة على تحويل القنابل غير الموجهة - القنابل الغبية - إلى قنابل دقيقة التوجيه، فإن "إسرائيل" حتمًا، تمتلك حاليًّا عددًا كافيًا من هذه الذخائر، ومن المفترض أنها لم تترك مخازنها فارغة منها في هذا التوقيت الحساس من معركتها، كما أنها لن تكون مستاءة كثيرًا لو بقيت أغلب قنابلها المدمرة غبية أو غير ذكية، كونها لا تهتم عمليًّا لنوع أو لحجم الإصابات الكارثية لهذه القنابل، وهي، عمليًّا، تملك الكثير من الخيارات البديلة الأخرى مثل قذائف دبابات الميركافا، والتي كانت واشنطن قد سلمتها كميات ضخمة منها مؤخرًا، في الصفقة المشتركة الأخيرة، مع صفقة الأسلحة التي وافق الكونغرس على تسليمها لأوكرانيا.
ثانيًا، وفي ما خص ما نفذته "إسرائيل" حتّى الآن ميدانيًّا في رفح، يمكن القول إن ما حققته لناحية سيطرتها على معبر رفح، يعتبر كافيًا كي تكمل حصارها على كامل القطاع، الأمر الذي يؤمن لها مروحة واسعة من نقاط الضغط، قادرة على استثمارها، في حال سلكت التسوية مع حماس، أو في حال تعثرت وتوقفت.
أيضًا، ولناحية سيطرة "إسرائيل" على معبر رفح من الجهة الفلسطينية، وثباتها لاحقًا على هذه السيطرة، فإن هذا الأمر سوف يعطيها، مستقبلًا، تأثيرات غير بسيطة على التحكم بتركيب المنظومة الإدارية والأمنية للقطاع بعد انتهاء الأعمال القتالية، وهذا الأمر سيكون متاحًا لها أيضًا، وبنسبة غير بسيطة، حتّى في حال سلمت المعبر لشركة أمنية أميركية، حسب ما يتم تداوله في بعض المصادر.
في البعد العسكري للعملية في رفح، فإن كلّ المعطيات تدل على أن مستوى المواجهة بين وحدات العدوّ وبين المقاومة الفلسطينية بمختلف فصائلها، لن يكون مختلفًا عن مستوى المواجهة سابقًا أو حاليًّا في شمال القطاع أو في وسطه أو في خان يونس، ومن المفترض أن الاحتلال يفهم فعليًّا هذا الأمر وهو مقتنع به، وبالتالي، هو لن يجد في ذهابه بعيدًا في العملية حتّى العمق، أي أفق عسكري يحقق له أهدافه التي وضعها أساسًا للعملية منذ الثامن من أكتوبر الماضي.
من هنا، وحيث يجد "الإسرائيلي" أنه لن يستطيع مواجهة التداعيات الإنسانية للاشتباك الواسع في رفح بوجود هذا العدد الضخم من النازحين الفلسطينيين، وحيث يجد أيضًا عدم وجود جدوى عسكرية من إكمال عمليته في رفح حتّى النهاية، وحيث يجد أن السيطرة على معبر رفح وامتدادًا ربما إلى كامل معبر فيلادلفيا الفاصل مع مصر، سيحقّق له مستوى متقدمًا لناحية التحكم في إدارة القطاع لاحقًا مع إضعاف نفوذ حماس والمقاومة بشكل عام، فإنه انطلاقًا من كلّ ذلك، خلق هذا التباين الخادع مع الرئيس بايدن، من جهة ليساهم في تبرئة جانب الأخير أمام الداخل الأميركي وتحديدًا أمام الناخب الأميركي، ومن جهة أخرى لكي يقايض مع الجميع، بين إكمال مجازره في رفح حتّى النهاية أو بقائه مسيطرًا على معبر رفح، وعمليًّا بما معناه إكماله الحصار على القطاع، ومن جهة أخرى إكمال مسار التسوية والتبادل، تقريبًا حسب الشروط والبنود التي تضمنها اقتراح الوسطاء الأخير، والتي لم تكن أساسًا بعيدة عن موافقته، والتي، عمليًّا، وافقت عليها حماس مؤخرًا.