علي عبادي
لنتخيّلْ ما حصل في الأيام القليلة الماضية بصورة معكوسة:
لو أن "إسرائيل" هاجمت إيران بمئات الصواريخ والمسيّرات، وتبنّت الهجوم رسميًا.
ثم توعّدت إيرانُ بالرد، وأطلقت بضع مسيّرات صغيرة أو حتّى صواريخ من خارج الحدود أو من داخلها، لكنّها تفادت إعلان مسؤوليتها. بماذا سيعلّق الإعلام الخارجي الغربي وغير الغربي؟
سيقول جريًا على سيرته المألوفة: ردّ إيران (وفق هذا الافتراض) دون المستوى وغير متناسب، وهي مرتدعة وخائفة من "إسرائيل".
لكن الإعلام الأميركي هلّل وكبّر الهجوم الإسرائيلي، وبحث عن أي لقطة تفيد بوقوع الهجوم، فلم يجد. ذهب إلى البحث عبر الأقمار الاصطناعية، فوجد علامات متغيرة في قاعدة جوية إيرانية فسّرها على أنها إصابة لرادار أو لبطارية دفاع جوي من طراز أس - 300. هذا على الرغم من أن صورًا أولية من الأقمار الصناعية حصلت عليها شبكة CNN الأميركية لا تُظهر وقوع أضرار واسعة النطاق في قاعدة جوية إيرانية يُزعم أنها استُهدفت في ضربة عسكرية إسرائيلية. ولا يبدو أن هناك أي حفر كبيرة في الأرض أو مباني مدمرة بشكل واضح.
مع ذلك، رأينا عملية ترويج واسعة وفورية لنتائج الهجوم في أصفهان. والواقع أن دوافع الإعلام الأميركي لترجيح كفة "اسرائيل" في أي معركة أمر مفهوم ومفروغ منه، لا سيما في ظلّ السعي الأميركي لخفض مستوى التصعيد حفاظًا على مصالح الولايات المتحدة و"إسرائيل" معًا، كما عبّر المسؤولون الأميركيون. هذا إضافة إلى دافع ثابت لدى الغرب بترسيخ تفوق "إسرائيل" النوعي على أعدائها، لأن هذا في نظرهم من شروط بقائها.
لكن المفارقة أن بعض الإعلام العربي سوّق الرد الإسرائيلي على إيران، كأنه الفتح المبين. وقد علِق هذا الإعلام بين صورتين متضاربتين: صورة تظهير إنجاز إسرائيلي بـ "شن هجوم على أصفهان في العمق الإيراني"، وصورة أخرى سابقة لها تتضمن الادّعاء بأن ما يجري هو "مسرحية" بين الطرفين، وتردّدُ وسائل الإعلام المشار إليها هذا الادّعاء عندما يتعلق الأمر بالضربة الإيرانية على نحو خاص.
هذه حال قناة "العربية" التي نقلت عن مصادرها أن 3 طائرات إسرائيلية من طراز "إف 35" نفذت الهجوم على إيران حيث استهدفت منظومة رادار للدفاع الجوي مكلفة بحماية منشأة نطنز النووية بأصفهان. وإلى جانب تقديم رواية الإعلام الإسرائيلي والأميركي وإحاطتها بدرجة عالية من الاهتمام وهالة من المصداقية، ذهبت مصادر القناة السعودية إلى سَوْق مخاوف من احتمال تعرض منشأة نطنز النووية للخطر، علمًا أن المنشأة بعيدة عن مكان الهجوم بالمسيّرات وهي محصّنة ومحمية بشبكة دفاع جوي، وليس في وسع مسيّرات صغيرة اختراقها. ولم تنسَ أن تنقل عن موقع "مبادرة التهديد النووي" الأميركي أن المنشأة "قد تكون مركزًا لبرنامج سري للأسلحة النووية الإيرانية"، في حين أنها تخضع لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كذلك، أعطت "سكاي نيوز عربية" الإماراتية ثقلًا للادّعاءات الإسرائيلية والأميركية حول الهجوم على أصفهان وعززت سرديتها بالمصادر الإسرائيلية مباشرة من دون واسطة، وذكرت أن الضربة التي "هندستها اسرائيل" "أصابت أصولًا للقوات الجوية الإيرانية" وأن أنظمة الدفاع الجوي الروسي التي تمتلكها إيران فشلت في التصدي للضربات الإسرائيلية، بحسب ما نقلت عن مصدر أميركي لـ"فوكس نيوز". كما نقل مراسلها في القدس المحتلة عن "مصادر إسرائيلية" قولها إن بقايا الصاروخ التي عُثر عليها في العراق "قد تكون نوعًا جديدًا من الصواريخ التي تُطلق من طائرة، وفي مرحلة معينة تخرج مسيّرات من الصاروخ لتستكمل طريقها نحو الأهداف في ما يسقط الصاروخ على الأرض". ولم تنسَ – على غرار "العربية" السعودية - أن تنوّه بأن النووي الإيراني أصبح "مكشوفًا" و"في خطر".
واستعادت القناة الإماراتية تاريخ هجمات سابقة بالمحلّقات الصغيرة على مرافق عسكرية إيرانية لإضفاء مصداقية على الهجوم الإسرائيلي الجديد. كما تبنّت مقولة جيش الاحتلال بأن الدفاعات الجوية تمكّنت من اعتراض 99 بالمئة من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية ليل 13 - 14 الجاري، بالرغم من أن مصادر إعلامية إسرائيلية ذكرت في وقت سابق أن نسبة الاعتراض لا تتجاوز 84 بالمئة، وهو ادعاء لم يتم إثباته على نحو قطعي ولا يجوز أخذه كحقيقة لمجرد إطلاقه من قبل طرف له مصلحة في نسْب التفوق إلى نفسه.
وكانت قناة "الجزيرة" القطرية أكثر توازنًا نسبيًا من القناتين السعودية والإماراتية، وقدّمت عرضًا للرواية الإيرانية حول غارة أصفهان والتعليقات الإسرائيلية والأميركية، كما توقفت عند منظومة الدفاع الجوي التي تمتلكها إيران. ولوحظ أن "الجزيرة" أعطت اهتمامًا خاصًا بدلالات الضربة الإيرانية لكيان الاحتلال. لكن هناك من يأخذ عليها أنها انساقت وراء المزاعم الأميركية والإسرائيلية بشأن التقليل من النتائج العسكرية للضربة، كما منحت هجوم المسيّرات الإسرائيلية حجمًا واسعًا من التغطية، ما أسهم في تضخيمه على حساب دلالات محدوديته وضيق الأفق العسكري الإسرائيلي.
لا يشكّ محلّل منصف في أن الضربة الإيرانية لكيان العدوّ قد كسرت محظورًا في الحرب مع العدوّ وارتقت "طبقة استراتيجية"، كما عبّر المعلق الصهيوني ألون بن ديفيد. كما أن الهجوم الإسرائيلي المضاد الذي ظهر في بضع مسيّرات صغيرة لم يلتقط أحدٌ صورة لها أو يجد لها أثرًا لن يغير مشهد تحليق الصواريخ والمسيرات الإيرانية في طول كيان العدوّ وعرضه.
1 - وصلت الصواريخ والمسيّرات الإيرانية في أسراب ومجموعات كبيرة إلى أجواء فلسطين المحتلة، وهذا يعني أنه لو كان هناك اعتراض فعال من قبل القوات الأميركية والقوات الحليفة لها في المنطقة لكانت الصواريخ والمسيّرات وصلت مشتَّتة وفرادى إلى كيان العدوّ وليس في صورة مجموعات متراصّة.
2 - أظهرت إيران قدرة احترافية على التحكم بالمسيّرات والصواريخ من مسافة بعيدة جدًا عن أماكن إطلاقها، فلم يخرج أي منها عن المسار المقرَّر أو يسقط على هدف غير عسكري، بالرغم من عددها الكبير. وهذه رسالة بليغة جدًا حول قدرات إيران التكنولوجية في هذا المجال.
3 - لم يعرض الجيش الأميركي أدلة على صحة ادعاءاته بشأن إسقاط 80 مسيّرة وستة صواريخ باليستية إيرانية، والسؤال: لماذا لم يُبرزوا صورًا تثبت ذلك؟ علمًا ان كلّ الطائرات والردارات لديهم يمكنها ان تلتقط صور عملية التصدي.
4 - بالرغم من مرور أيام عدة على سقوط الصواريخ الإيرانية على قواعد جوية للاحتلال، لم ينظم العدوّ جولة لوسائل الإعلام الإسرائيلية - ناهيك عن الأجنبية - في هذه القواعد، وهذا دليل تستّر على ما حصل بالفعل.
هذا والكل كان على علم بإطلاق الصواريخ والمسيّرات في وقتها، ذلك أن الجمهورية الإسلامية وجدت نفسها ملزمة بتبليغ الدول التي تقع على مسار الهجوم باتّخاذ الإجراءات الاحترازية الضرورية لحماية الطيران المدني تفاديًا لأي أضرار غير مقصودة، مع الإشارة إلى أن التبليغ كان عامًا من دون تحديد الموعد الدقيق وطبيعة الأهداف المقصودة.
في الخلاصة، تمخّض جبل التهديدات الإسرائيلية بالرد عن "فئران" مسيّرة صغيرة تبحث عن ردّ اعتبار لكيان الاحتلال في مجابهة ضربة ردع إيرانية لم يسبق أن شهد العدوّ مثيلًا لها، وستبقى علامة عار على جبينه تضاف إلى إخفاقاته الاستخبارية والعسكرية الكثيرة. لنتذكرْ أنه لو سقط على عمق الكيان عُشر تلك الكمية من الصواريخ والمسيّرات في زمن آخر أو من قبل دولة أخرى، لكان العدوّ ردّ على الضربة بعشرة أضعاف ولأعلن عن ذلك بكلّ ثقة ومن دون وجَل... .