حسن أحمد حسن
الموجة الأولى لملحمة "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول 2023م اكتنزت في كينونتها الذاتية الكثير من المعاني والدلالات التي تؤكد أنها ليست ردة فعل آنية، ولا تهورًا طائشًا باتّخاذ قرار في لحظة رغبة عاطفية بالانتقام، كما يحلو لبعض الأقلام المسمومة والمأجورة توصيفها. وإذا كان هناك من حاول تسفيه الصورة الأولية التي أفرزتها عملية الطوفان المبارك، وتسخيف النتائج النهائية المحتملة لخواتيمها المنتظرة، فاليوم وبعد ستة أشهر يتضح أنها كانت القرار الأكثر صوابية لتلافي الحشر في الزاوية، في ظلّ تبخر جميع الخيارات الممكنة ليبقى خيارًا واحدًا متاحًا، وهو الرضوخ لسياسة الأمر الواقع.
ومن القواعد الثابتة في منطلقات التفكير الاستراتيجي أنه عندما تقتصر الخيارات على خيار واحد يُصَنَّفُ القرار الذي يتبناه بأنه "قرار إذعان" لا يعبر عن إرادة ذاتية لها حقوقها المشروعة، بل عن إرادة مقموعة وقابلة للرضوخ لما يفرض عليها، ولا أدل على ذلك من تبدل الصوة العامة في الوعي المجتمعي والرأي العام الدولي الذي يشهد اليوم اصطفافات جديدة لم يعرفها منذ الأيام الأولى لنظام الأحادية القطبية.
ذاكرة السمك التي يحرص بعض المرتزقة على تعويمها كنموذج يحتذي للراغبين في العيش بـ "أمن وسلام" لم تعد ذات جدوى، فذاكرة أصحاب القضية زاخرة بكلّ التفاصيل منذ أن تبنى أصحاب الإرادة والكرامة منهج المقاومة واعتمدوا ثقافتها أنموذج حياة لا يفرط بحق، ولا يتنازل عن ذرة تراب، كما أنه لا يغفل آهة حرى تصدر من هنا، ولا دمعة قهر تسيل هناك، مع اليقين بأن التكلفة عالية وغالية وباهظة وقد تكون فوق طاقة التحمل، لكنّها تبقى أقل وأيسر وأكثر مردودية من ضريبة الخنوع والتفريط بالكرامة والحقوق...
اليوم ورغم عشرات آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى والمصابين والمفقودين وغالبيتهم من الأطفال والنساء.. على الرغم من حجم الدمار والخراب والآلام التي سببتها العدوانية الإسرائيلية المتوحشة بدعم وتقاسم ومشاركة مصاصي الدماء في بلاد العم سام.. على الرغم من النفاق الغربي الأطلسي المفضوح الذي يدعي زورًا وبهتانًا الدفاع عن حقوق الإنسان وأولها حقه في الحياة.. اليوم وعلى الرغم من شبه الصمت العربي والإسلامي المريب، وأشياء أخرى كثيرة، يثبت الفلسطينيون وعشاق نهج المقاومة أنهم الأبعد نظرًا، والأصدق قولًا، والأعمق رؤية، والأشد بأسًا، والأمضى عزيمة، والأوفر حظًا باجتراح النصر باعتراف إعلام العدوّ الإسرائيلي نفسه.
اليوم يدرك كلّ من يحرص على رؤية الحق والحقيقة أن عملية "طوفان الأقصى" لم تكن رقصة نشوة عابرة بين الحفر المسكونة بالويل والدمار والقتل والعذابات التي لا تنتهي، بل هي خطوة مباركة تخمرت عبر عقود في بيئة للصبر البنَّاء وإعداد العدة لتعبر عن إرادة عصية على المصادرة والتهميش. وإذا كان بين ظهرانينا من حسم أمره والتحق بمن ارتضوا أن يكونوا نعاجًا في محمية وحوش مسعورة فهذا شأنهم، وعلى امتداد الحضارة الإنسانية لم تخلُ حربٌ من وجود من تُشْتَرَى أقلامهم لتعميم حالة من اليأس والإحباط والخنوع والدونية، وفي الوقت نفسه لم يكتب التاريخ أن أحدًا من أصحاب تلك الأقلام خرجوا إلا بلعنة التاريخ واحتقارهم من أبناء جلدتهم بعد افتضاح أمرهم، بغضّ النظر عن طول المدة أو قصرها. ولعلّ الجانب الأكثر خطورة هنا يكمن في تفاخر بعض أولئك بالاصطفاف في خندق العدوّ الذي أوغل حتّى الثمالة بسفك الدم العربي في فلسطين وفي كلّ مكان تصله ألسنة نار حقد ووحشيته إجرامه المنفلت من كلّ عقال، وكي لا يشعر أولئك أنهم يسرحون ويمرحون ويردحون كما يحلو لهم، قد يكون من المهم الاستشهاد بما تتناقله وسائل الإعلام الإسرائيلية يوميًا من مقالات وتحليلات ومقابلات وتصريحات يجمع بينها قاسم مشترك عنوانه: الفشل الإسرائيلي المركب عسكريًا واستخباراتيًا وسياسيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا، وجولة سريعة على تلك المنصات الإعلامية تكشف الكثير من مكونات الصورة المعبّرة عن الواقع المأزوم والمتشظي الذي يعيشه الكيان، مستوطنين وجنودًا ومتزعمين وقادة رأي بآنٍ معًا، وسأكتفي بالتوقف عند بعض العناوين في إعلام العدو، ومنها:
• صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصادرة بتاريخ 31/3/2024م نقلت عن المحلل السياسي والعسكري الإسرائيلي رونين بيرغمان قناعته بأن: "الجيش الإسرائيلي، وفقًا لخططه الخاصة، لم يحقق أهدافه وليس لديه سيطرة عملياتية في جميع أنحاء قطاع غزّة"، ويتابع تحليله وتوصيفه لحقيقة الواقع القائم بالقول: "علينا أن نقول بصراحة أن كلّ شيء عالق، وإن "دولة إسرائيل" تتعثر في ساحة المعركة، وترتكز على الوحل الذي خلقته لنفسها في غزّة، وتتدهور إلى الهاوية في العالم السياسي والدولي" وإلى مثل هذه الخلاصة أشارت صحيفة "هآرتس" بمقال مضمونه يقول: "نتنياهو فشل ويدفع بـ"إسرائيل" نحو الهاوية"، فهل يستقيم مع مثل هذا الكلام منطق التخويف والتهويل، ومحاولة تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية التسبب بهذا القدر الصادم من الإجرام الصهيوني الذي ما كان له أن يستمر لولا التواطؤ الأميركي، والمشاركة الفعلية لضمان استمرار هذه الحرب أطول فترة ممكنة، مع الحرص على إبقائها مضبوطة الإيقاع انطلاقًا من اليقين بأنه على ضوء خواتيمها تحدد مدخلات إعادة رسم الخرائط الجيوبوليتكية إقليميًا ودوليًا؟
• صحيفة "إسرائيل هيوم" الصادرة بتاريخ 29/3/2024م رأت أن صلية القذائف الصاروخية غير العادية التي أُطلقت على مستوطنة "كريات شمونة"، والخسائر التي تسببت بها، سلّطت الضوء على "الواقع القاسي في الشمال" وأوصلته إلى صدارة العناوين، وقال محلّل الشؤون العسكرية في الصحيفة يوآف ليمور: "إنّ "إسرائيل" وبعد ستة أشهر من الحرب في ورطة استراتيجية لا يتبدّى لها حلّ واضح"، وهذا اعتراف رسمي إسرائيلي بأن الموضوع يتجاوز الإخفاقات التكتيكية والعملياتية، وعندما يتم توصيف الحالة بأنها ورطة استراتيجية، ولا أفق لحلول ممكنة فهذ يؤكد أن العدوّ يألم كما نألم إن لم يكن ألمه أشد وأخطر.
• بتاريخ 28/3/2024م نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية وثيقة أعدها عضو الكنيست عميت هليفي من حزب الليكود، وهي "... تتضمن عشرة إنجازات استراتيجية حققتها حركة حماس منذ بداية الحرب في 7 تشرين الأول وعلى حدّ تعبير هليفي من بين إنجازات حماس المفصّلة في الوثيقة المذكورة: المفاجأة والنجاح العسكري ضدّ الجيش الإسرائيلي ـــ عودة "الدولة الفلسطينية" كمطلب إلى الساحة الدولية ـــ دعم مثقفين في الدول الغربية لحماس وتبريرهم لعمليتها ـــ المسّ بتكتل المجتمع الإسرائيلي من خلال استخدام الأسرى من أجل تغيير ميزان الوعي من غضب وانتقام بحماس إلى أنسحاب "بأيّ ثمن"... وكثير غير ذلك، والإنجاز الوحيد الذي ينسبه للكيان الغاصب يتعلق بما قال عنه: "الالتزام والإخلاص وروح التطوع لدى مئات آلاف الجنود وأفراد عائلاتهم"، مع أن واقع الحال يشكك بذاك الإنجاز المذكور، فهناك رفض لا يستهان بأعداده للالتحاق في الخدمة العسكرية وبخاصة على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وهناك تردّد وتأخر في الالتزام بتنفيذ الدعوات الاحتياطية، والمصادر الرسمية الإسرائيلية تعلن أن جيش الاحتلال بحاجة ماسة وفورية لأكثر من /10500/ جنديّ اليوم قبل الغد.
• "الإذاعة الإسرائيلية 103FM": استضافت بتاريخ 28/3/2024 عقيد الاحتياط الإسرائيلي كوبي ماروم الذي يتم تقديمه بصفته خبيرًا في شؤون الأمن القوميّ والساحة الشمالية داخل الكيان، وقد تحدث عن المعركة التي يخوضها جيش الاحتلال ضدّ حزب الله، ورأى أن "الضرر في الشمال أكبر بكثير ممّا حدث في الجنوب"، وأضاف ما يستحق الوقوف عند مدلولاته عندما قال: "بصفتي أحد سكان الشمال، أشعر أن الكابينت خسر الشمال بكلّ ما للكلمة من معنى.. نحن في حرب استنزاف منذ ستة أشهر، وهي لن تؤدي إلى أي نتيجة.. نحن في خطأ استراتيجي واضح"، وفي استضافة أخرى للواء الاحتياط نوعام تيفون في الاحتياط الذي كان سابقًا قائدًا لفرقة الضفّة الغربية والفيلق الشمالي فقد أشار إلى ما هو أبعد من ذلك بقوله: "هناك خطأ استراتيجي في إدارة المعركة، إذ ليس لدينا استراتيجية واضحة. وصلنا إلى وضع نحن فيه معزولون"... ثمّ يأتي كاتب من هنا ومتحذلق من هناك ليقول: المقاومة الفلسطينية متهورة، وحزب الله مردوع، في حين يعترف موقع "والا" العبري بالحقيقة المرة ويقول: "الجيش الإسرائيلي فشل في فرض معادلته على حزب الله". فمن الرادع، ومن المردوع، ولمن اليد الطولى في ميدان المواجهة المفتوحة؟
خلاصة: لا شك أن الوضع الميداني شديد التعقيد وضاغط على الجميع، لكن قدرة مجتمع المقاومة وشعبها على التحمل أضعاف قدرة العدوّ الإسرائيلي المتفوق بالجانب التسليحيى والتقني وما يمتلكه من وسائط التدمير الشامل وأسلحة الدقة العالية برًا وبحرًا وجوًا، ومن الواضح أن فائض القوّة والتوحش لدى "تل أبيب" لم يحقق أهداف حكومة نتنياهو، بل بدأ الداخل الاستيطاني يكتوي بالارتدادات المتزايدة لانعكاسات الفائض الذي انتهت صلاحيته على الداخل الاستيطاني المنقسم والمرتبك والمتخبط بدليل الاعتراف بالعجز عن تحقيق أي من الأهداف المعلنة من حكومة نتنياهو، وتسارع تآكل ما تبقى منها.