محمد أ. الحسيني
درج عند خبراء الكلام من أهل الفقه الإسلاميّ مصطلح "إسرائيليات"، للدلالة على الإدخالات التي تطرأ على الأحاديث المروية عن السلف، وهذا يكفي لديهم كمسوّغ لإسقاط الحديث المروي، وعدم الأخذ به كمستند صحيح يمكن اعتماده والبناء عليه في التشريع أو توثيق السيرة، نظرًا لعدم موثوقيته بسبب تحريفه أو الإضافة عليه بما يخالف نصّه الأصلي، والهدف من هذا التحقّق هو الإبقاء على الأحاديث الشريفة صحيحة ونظيفة وخالية من أي إدخالات مشبوهة هدف المؤرخون اليهود من خلالها إلى "تطويع" الأحاديث أو "ضربها" إمعانًا في سياسة تخريب الفقه وتدمير التراث الديني أصولًا واجتهادًا.
فتن الشرق والغرب
لم تقتصر "الإسرائيليات" المُدخلة على الجانب الديني، بل تعدّته لتشمل التأصيل الثقافي والتربوي وعلوم السياسة والاجتماع وغيرها من أسس العلم الذي تُبنى عليه عناصر تطوّر الفرد وكذلك حضارات الأمم، وساهمت هذه "الإسرائيليات"، بدفع من أجهزة الاستخبارات ومنظمات المال والسيطرة، في إنشاء جماعات وفرق عديدة في المجتمع الإسلاميّ كما في المجتمع الغربي، فظهرت طوائف جديدة بممارسات غريبة لا تمت إلى أصل الإسلام أو المسيحية بصلة، وصولًا إلى بدعة "الديانة الإبراهيمية" التي باتت تجد لها معابد هجينة في بعض الدول الخليجية، وتحوّلت إلى ذريعة استهلاكية لترويج التطبيع وتقبّل اليهود في المجتمعات العربية والإسلاميّة.
ولطالما دأب اليهود على حياكة المؤامرات وتذكية الفتن وإشعال نار التفرقة بين القبائل والشعوب، ليس في المنطقة العربية قبل الإسلام وخلاله وبعده فحسب، بل أيضًا في أوروبا كلّها خلال عصور انحطاطها ونهضتها، ولذلك لم يجدوا لهم موطئ قدم عند أحد، ولم تستقبلهم أرض في أي ناحية، ولم يستطع أحد من الأقوام أن يدمجهم أو يندمج بهم، حتّى جاءت فرصة الترحيل التاريخية إلى أرض فلسطين على خلفية خارطة استعمارية – توسعية، ونجح اليهود فيها أن يفرضوا أنفسهم، ضمن إطار مسمّى "دولة إسرائيل"، كأداة فاعلة غير قابلة للاستغناء عنها أو التضحية بها، فتحوّل هذا الكيان المُبتدَع إلى مشروع تقاتل دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية من أجل بقائه، طالما أنه يؤمّن مصالحهم الآنية والاستراتيجية، هذا فضلًا عن استخدامه كفتيل تفجير يحول دون انقلاب دورة الزمن الذي يختزن تراثًا مؤلمًا سبّبته مئات السنوات من الحكم العثماني تحت مظلّة الخلافة الإسلاميّة.
قوم الانعزال
لم يأتِ نجاح "الإسرائيليات" في التغلغل والحضور وليد صدفة أو ضربة موفّقة، بل نتيجة لمئات السنين من العمل الدؤوب التي جنّد فيها اليهود كلّ طاقاتهم ومقدّراتهم وأساليبهم غير المشروعة في المطلق للتسلّل إلى داخل أنسجة المجتمعات الشرقية والغربية، حتّى اطمأنوا إلى أنهم على وشك إطباق السيطرة على مفاصل التحكّم العالمي، ولكن بقيت نقطة الضعف الأقوى عندهم أنهم لم ينجحوا في تسويق أنفسهم ككيان ذي شخصية ثقافية ومعنوية مقبول لدى الأمم المختلفة، على الرغم من أنهم موجودون كأفراد ومنظّمات داخل المجتمعات، ومردّ ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يتغلّبوا على حقيقة فطرتهم الإنعزالية التي لا تتقبّل الآخر من منطلق النديّة في المستوى والمساواة في الخَلق والتكامل في الفعل والتطوّر؛ وعلى هذا الأساس يأتي التوحّش في الاحتلال والقتل والتدمير كواحدة من التجلّيات التي طبعت نشأة وتكوين الشخصية اليهودية – الصهيونية، بحيث لا يمكن لهؤلاء القبول بفكرة التعايش مع شعب آخر، فكيف لو كان هذا الشعب يقاتل من أجل تحرير إنسانه وأرضه ومقدساته التي نهبها واحتلها الصهاينة بتوسيغ ديني وسياسي مبني على التلفيق والأكاذيب؟!
التسوية أم الرضوخ؟
من هنا لا يمكن احتمال أي إمكانية لإرساء تسوية دائمة أو صيغة حلّ في فلسطين المحتلّة بناء على القرارات والمواثيق الدولية، فقد أخفق ما يسمّى "المجتمع الدولي" لسنوات طويلة في إلزام الكيان المؤقت بتنفيذ أي قرار، وكان نظام الاحتلال منذ حملة نابليون بونابرت الفرنسية مرورًا بالهيمنة البريطانية وصولًا إلى الإدارة الأميركية، تسهّل للعصابات الصهيونية كلّ أنواع الارتكابات اللاقانونية واللاإنسانية بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلاميّة، فهل سيقبل الصهاينة الرضوخ للحل اليوم، وهم في أوج قوتهم وانتشارهم وسيطرتهم، كما يتخيّلون؟! بالطبع لا.. إلا أنهم سيجدون أنفسهم مجبورين على الرضوخ مرة جديدة بفعل الانتصار الميداني الذي حققته فلسطين بتضحيات مقاومتها وصمود شعبها في قطاع غزّة، في معركة غير متكافئة العناصر والمقوّمات.
سقوط موازين القوى
قد يرى البعض في إعلان الانتصار في معركة "طوفان الأقصى" خطوة ساذجة ومبكرة جدًا، خصوصًا أن الحرب لم تضع أوزراها بعد، ولمّا يرفع الصهاينة الراية البيضاء، ولم يعلن قادة الاحتلال هزيمتهم واستسلامهم للمقاومة الفلسطينية.. قد يكون هذا الكلام صحيحًا حين يتعلّق الأمر بطرفين متحاربين على قدم التكافؤ، أمّا في حالة قطاع غزّة فلا مكان للمعادلات، حيث تواجه المقاومة جبهة عسكرية ضخمة تتفوّق بميزة إطباقها الشامل من الجو والبر والبحر، ومدعومة بتفوّق تقني وتكنولوجي، وتشارك في دعمها أقوى الدول في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة، فضلًا عن اختلال الموازين على مستوى العديد والعدة والتدريب والتسليح والتذخير بين جيش الاحتلال ومجموعات المقاومة داخل منطقة محدودة ومقفلة، ومحاصرة من الجهات كافّة.. وعلى الرغم من هذه الاختلالات الفظيعة، كبّدت المقاومة الفلسطينية قوى الاحتلال الإسرائيلي – الغربي أعلى الخسائر في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني قياسًا بمستوى المواجهة ومدّتها، واستطاعت أن تفرض حضورها الفاعل داخل مجتمع العدو، كما في عواصم المجتمع الدولي الذي استفاق بعض شعوبه على إطّلاع مختلف عمّا دأبت وسائل الإعلام على الترويج له من تصوير "إسرائيل" كواحة للديمقراطية، فتبين لديه بأن هذا الكيان المصطنع ليس سوى أداة إرهابية تحترف القتل والإجرام.
على طريق تحرير فلسطين
أثبتت معركة "طوفان الأقصى" أن "الإسرائيليات" لم يعد لها مكان للتأثير على مجريات التاريخ المعاصر، وأكّدت أن فلسطين ليست لوحدها، على الرغم من الخذلان العربي والتنكّر الإسلاميّ لقضيتها، وأن قطاع غزّة الكؤود على الاحتلال محتضن بقوى محور يحاصر كيان العدوّ من الجهات كافة، وخصوصًا من خاصرته الشمالية المفتوحة أمام المقاومة الإسلاميّة، حتّى بات قادة "تل أبيب" كما إدارة واشنطن يتطلّعون - مع تجاوز عدّاد أيام المعركة المئة يوم - إلى تسوية قريبة "مهما كان الثمن"، فقد تكسّرت "السيوف الحديدية" أمام الطوفان، وخسرت "إسرائيل" الحرب و"غرقت في الفشل" و"أخفقت في تحقيق أهدافها بشكل ذريع"، ولن تجد حكومة نتنياهو أو غيره "أمامها سبيلًا آخر سوى القبول بشروط المقاومة في غزّة، وبالتالي الوصول إلى نقطة إعلان وقف كامل للعدوان على غزّة، والذهاب إلى التفاوض لمعالجة الملفات"، وإذا أرادت الحرب بألويتها المنهكة فأهلًا ومرحب".. وفي الخلاصة فقد انضمّت معركة "طوفان الأقصى" إلى سابقاتها من معارك الانتصار كمحطة إضافية تعبّد الطريق أمام تحرير فلسطين، بفعل المقاومة والاستشهاد وليس بالأقوال والشعارات.