هدى محمد رحمة
كانت ولادته أشبه بالمعجزة، قبل ولادته وبعد إنجاب الأم لابنتيها، أنجبت خمسة أبناء ليعيش كل منهم لوقتٍ لا يتعدى الساعتين. حتى هو، وهو في أحشاء أمه، قال الأطباء أنه في خطر ورئتيه غير سليمتين، بالإضافة لمشاكل صحية أخرى شخّصها الأطباء، وتوصّلوا إلى أنه وفقًا للعلم لن يعيش كثيرًا بعد ولادته.
نذرته أمه للإمام الحسين عليه السلام، وعند ولادته، وُلد بكامل الصحة والعافية، هو الخالق المدبّر المغيّر، بيده الحكم والقضاء، كانت أمه لا تزال على سرير الولادة حين خلعت الذهب الذي تلبسه لتقول "هول للإمام الحسين عليه السلام، على حبو، أني نذرت إبني للإمام الحسين." وكان إسم الإبن جاهزًا "حسين".
كان مشهورًا في قريته "عيتا الشعب" بأنه كثير الدلال من أهله وأقاربه، هو الدلال والتعلق الذي لم يؤثر قيد أنملة على تربيته الحسينية، هو إبن "أبو حسين" و "أم حسين" المشهود لهما بالإلتزام والتعلق بالخط الجهادي، والعطاء في سبيله، دون حدودٍ أو شروط. كيف لا وهما من ضيعة كانت ضمن "الشريط الحدودي" سابقًا، وقدمت ثلة من مجاهديها السابقين للجهاد والشهادة لصنع يوم التحرير من أيار عام 2000. بعد سنوات، عام 2006، كان لشبابها وباقي المجاهدين صولات وجولات في حاراتٍ مختلفة منها، مثل الكثير من المناطق في قرى الجنوب، لتصنع دماء الشهادة والجراح والجهاد الإنتصار المبين.
وبعد، كما كل قرى الجهاد والعطاء والوفاء على امتداد لبنان عند كل معركة حق، عند بداية معارك الدفاع عن المقدسات، اندفع مجاهدي عيتا، كما كل المجاهدين، الأسود في الميدان، من عيتا من أقصى الجنوب وقصدوا مختلف مناطق الإلتحام في سوريا دفاعًا عن المقدسات، من بينهم "حسين". في معارك "الزبداني" كان حسين يبلغ الثامنة عشر ربيعًا، رصاصة قناص أصابت فمه لتخرج من فكِّه مُحدثةً أضرارًا كبيرة، ومعاناة طويلة. هي الإصابة التي كادت أن تكون قاتلة خصوصًا كونها كانت بمحاذاة شريانٍ أساسي في الوجه، حتى الطبيب يومها قال لأهله "إنتو شو عاملين لضلوا عايش؟" والإجابة في نفس أهله، هما نذراه لإمامه الحسين عليه السلام، وقد نال شرف الجراح في سبيل خطِّه.
على مدى سنوات كانت العمليات التي خضع لها "حسين" كثيرة، بالإضافة إلى صعوبات جمة عانى منها مثل تناول الطعام وغيرها، وكلها أمام ناظرَي أهلٍ صابرين محتسبين. خلال معارك الدفاع المقدس صار الشهيد تلو الشهيد يرتفع لأجل هذه المقدسات، وبقي مقام السيدة زينب عليها السلام محميًا بفضل تلك الدماء والجراح والبطولات الحسينية. وانتصرت المقاومة كما في كل معركة ومرحلة، فالحق هو المنتصر، ولو بعد حين.
بعد تماثل "حسين" للشفاء إلى حد كبير، تزوج، فرح أهله وإخوته كثيرًا بزواجه، وهم الذين كانوا يتألمون لألمه في مرحلة العلاج والعمليات. كما كانت فرحتهم الأكبر بابنته "مليكة"، وفرحة بعدها بانتظار مولوده الثاني.
في هذه المرحلة، وبعد عملية عظيمة تشبه إسمها "طوفان الأقصى"، وما أحدثتها من انتصارٍ للمقاومة ومحورها، وهزيمة للإسرائيلي واستخباراته، وبعد عدوانٍ غاشمٍ حاقدٍ وحشيٍّ على غزة العزيزة. ولأن قضية فلسطين هي قضية كل حرٍ وشريف، ولأنه "ولّى زمن الهزائم منذ زمن وجاء زمن الانتصارات" كما قالها سيد الوعد والصدق، انتفض الأحرار، خيرة الشبان، مناصرةً لقضية فلسطين، ولغزة الجريحة، ودفاعًا عن أرضهم من أي اعتداءٍ إسرائيلي مهما كان نوعه. أخذوا أماكنهم وهم المقاتٍلين المدرَّبين المجهَّزين الحاضرين للشهادة، فهم أبناء الرضوان.
ولعيتا، بعد عملية "طوفان الأقصى"، كان لها نصيب كبير من الاعتداءات الإسرائيلية اليويمة بالقصف، ومنها بالقنابل الفوسفورية والحارقة على أطرافها، عدا عن الضربات المحدودة التي طالت داخل القرية ومنازل منها. بناءً على بدء القصف العنيف طُلب من أهالي عيتا الخروج منها، ودّع "حسين" أهله وإخوته وزوجته وابنته ليلتحق بعمله الجهادي. فتح أهل العطاء من مختلف القرى بيوتهم لأهالي عيتا، كما لأهالي باقي القرى الحدودية التي كانت أيضًا تتعرض للقصف. ومن هذه القرى "زِفتا" في قضاء النبطية، فتح أهلها الطيبون قلوبهم قبل بيوتهم لاستضافة أهالي عيتا، كما الكثير من القرى والمناطق.
نزحت عائلة "أبو حسين" إلى زفتا، صاحب منزلٍ قدّم منزله الكبير والمجهز من كل الأساسيات والتفاصيل لهذه العائلة، ويوميًا يسأل عنهم وعن راحتهم وحاجاتهم. ترك لهم منزله ليقيم في منزلٍ آخر. ودائمًا ما يجلب لهم مما يحتاجونه بكل طيبِ خاطر، وكأنه يجلب الأغراض لأهل بيته، قائلًا "مش مسامح تجيبوا شي."
بعد 16 يومًا لوداع أهل وإخوة وزوجة وابنة "حسين" له، وصل الخبر، حسين وصل! لاقى وجه إمامه الحسين عليه السلام مخضبًا بدمه، من نذر نفسه ودماءه وروحه له. فكان أول فارسٍ من عيتا في هذه المرحلة، وكان استقبال الأهل للمباركين بالشهادة في المنزل الذي نزحوا إليه في زفتا، صار هذا المنزل "منزل الشهيد حسين باجوق"، ارتفعت فيه الصور، وأمامه اليافطات. وزاد اهتمام صاحب المنزل بعائلة الشهيد، فهو، كما الكثيرون من أهل الوفاء والعطاء على مدى لبنان، أشرف الناس. أُقيمت مجالس العزاء لروح الشهيد في حسينية زفتا، اجتمع فيها أهالي زفتا وعيتا، فكل شهيدٍ هو عزيز على قلب كل فردٍ من أشرف الناس.
أما تشييع الشهيد "حسين" في عيتا، والتي لا زالت على تخوم النار، وتتعرض أطرافها للقصف، كان التشييع مهيبًا! احتشد فيه المحبين، من بينهم 25 عمامةً شريفة. كان مشهد التشييع وكأن الوضع مستقر، ارتفعت القبضات والهتافات والصرخات بالتلبية للمقاومة وسيدها الأمين على الأرواح، ولفلسطين وغزة الجريحة، كل هذا بالتزامن مع قصفٍ عنيفٍ كان يطال أطراف وأحراج القرية أثناء التشييع، دون أن يؤثر على الإطلاق ولو على أي تفصيل في التشييع.
وازدانت روضة الشهداء في عيتا الشعب بعريسٍ جديد، على طريق القدس، وكما عند قطاف الورد، يُنظر إلى الوردة الأجمل والأزكى لتُقطف، كذا القطاف في عيتا عند كل معركة حق. هو "حسين"، من عارفًا متيقنًا اختار لجهاده إسم "شهيد". والده "أبا حسين" يبتسم بكل وقارٍ ورضىً لكل من يبارك له شهادة إبنه، و"أم حسين" تحضن صورته وتحمد الله على وفائها النذر للإمام الحسين عليه السلام، إخوته دامعون مفتخرون معاهدون، وزوجته تحضن ابنتهما، وتحمل في أحشائها طفله الذي لن يرى أباه، فمعركة الحق هي الأَولى والأغلى لخيرة شبانٍ تركوا الدنيا وما فيها ليلاقوا وجه الحسين عليه السلام مخضبين بدمائهم التي سقطت بيَد الله، وتُزهر انتصاراتٍ لحزبٍ ومقاومةٍ ما عرفت غير عز النصر.