عبير بسّام
لم يكن من السهل إيجاد مرادف مناسب للعنوان باللغة الإنكليزية ألا وهو "Europe Reset" للمؤلف ريتشارد يونغس. فكلمة Rest، تعني بالضبط، وقف الشيء عن العمل وإعادة التشغيل أو البرمجة. وأما الهدف من ذلك فهو تغيير الأداء أو تحسينه لمصلحة المُشغل. ومن الملفت أن الكتاب تم نشره في العام 2018، ولكن الأهمية في القراءة اليوم، وإن تأخرت، تكمن في التنبه للأحداث، التي ألهمت الكاتب ليتحدث حول عملية إعادة تشغيل أو برمجة أوروبا؟ والأهم من ذلك ما الذي كان ممكناً لأوروبا أن تتخذه من إجراءات لوقف الطلاق القسري ما بين بريطانيا والإتحاد الأوروبي؟
طبع الكتاب في العام 2018 من قبل "أي بي تاورس" في نيويورك. ويتألف من ثمانية فصول، إضافة إلى تمهيد أوضح الكاتب من خلاله أسباب وضع الكتاب، وأهمها، ابتداء مرحلة خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. اذ ما لفت نظر ريتشارد يونغس هو تصويت غالبية الشعب البريطاني على الخروج من الإتحاد. حيث يزعم يونغس أن الكتاب من حيث الجوهر هو تحديث للقول الشهير: "قوالب الاتحاد الأوروبي الحالية هي المشكلة؛ والحل في إيجاد أنواع جديدة من الديمقراطية الأوروبية". وهو بهذا المعنى لا يريد أن يقدم المواطنين الأوروبيين على أنهم المثالية بحد ذاتها، أو تصوير أن تقاربهم يتم بطريقة سحرية ومتناغمة، لكن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى تصميم وسيلة جديدة لإدارة الاختلافات والتنوع؛ وتبدأ المشكلة عندما تستخدم الإداراة وسائل لمحو هذه الاختلافات بدلاً من إدارتها. ولا يمكن توقع اختفاء الاختلافات في أوروبا ولكن يتوقع إدارتها بشكل جيد ويجب أن يكون للمواطنين رأي أفضل وأقوى في كيفية القيام بذلك. ولذا فهو يقترح أن تتم عملية للإندماج من القاعدة نحو الأعلى، وليس من خلال فرض التغيير من الأعلى وممارسة الضغط على القاعدة لتتوائم معه.
ريتشارد يونغس، مواطن بريطاني يعيش في أوروبا تأثر بشكل مباشر بالمبالغة في السلبية تجاه العلاقة الأوروبية ـــ البريطانية، مما أثر سلباً على تقبل وضع التكامل الراهن، حيث ظهرت الأضداد القطبية في داخل الإتحاد. بالنسبة ليونغس شكل تعايش الدول الأوروبية، هذه المدة الطويلة، داخل الإتحاد الأوروبي لغزاً مركزياً. لذا يناقش يونغس: "الاتحاد الأوروبي لا يستطيع ببساطة أن يستمر في العمل بطريقة مجزأة ومشوشة. وأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يجعل تغيير النهج أمراً لا مفر منه، كما يبدو أن الحاجة لإعادة التفكير في التكامل الأوروبي قوية، حتى قبل وقت طويل من إجراء المملكة المتحدة استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي". وريتشارد يونغس زميل قديم في مؤسسة كارنيغي في أوروبا وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة وارويك. قام بتأليف أحد عشر كتابًا سابقًا، ومنها: أزمة أوروبا الشرقية: الجغرافيا السياسية لعدم التماثل (2017)، لغز الديمقراطية غير الغربية (2015)، وأوروبا في الشرق الأوسط الجديد (2014).
فصول الكتاب ثمانية:
1ـ مقدمة
2ـ الفصل الأول: تحفة الارتباك: أزمة بولي الأوروبية
3ـ الفصل الثاني: حلول كاذبة
4ـالفصل الثالث: مشكلة الديمقراطية
5ـ الفصل الرابع: مشروع المواطنة الأوروبية
6ـ الفصل الخامس: ميثاق المواطنين الأوروبيين
7ـ الفصل السادس: أوروبا المتباينة: نحو مرونة جذرية
8ـ الفصل السابع: أوروبا آمنة؟
9ـ الخاتمة: الطريق الطويل نحو التكافل
يطرح الكاتب من خلال التمهيد، عدد من الأسئلة والأفكار ومن أجل معالجة هذه الأسئلة يطور يونغس حجته عبر عدد من الخطوات يشرح خلالها الطبيعة الهيكلية لأزمة الاتحاد الأوروبي، ثم يطرح أسباب تضليل خيارات الإصلاح الحالية، قبل الانتقال إلى نقاش أفكار للتغيير مبنية على أساس الروح المدنية الأوروبية. ومن خلال هذه الروحية تمت كتابة فصول هذا الكتاب.
يفصل الفصل الأول، تحفة الارتباك: الأزمة السياسية الأوروبية، الأبعاد المختلفة لأزمة الاتحاد الأوروبي المتعددة. وهو يفسر أسباب الأزمة الكامنة وراء كل مجال محدد من الاضطرابات السياسية، ويقسمها إلى مجموعات من التحديات التي تواجه الهيكل الأساسي للتكامل الأوروبي. اذ يزعم يونغس بأنه حتى لو كانت هناك حاجة إلى الحرص على عدم المبالغة في حجم الأزمة، لا يمكن استبعاد هذا البعد الهيكلي. هذا مع العلم أن الأزمة السياسية في اوروبا يعود الكاتب إليها في كل مرة من أجل إعادة شرح علاقتها بمختلف النقاط التي يبحثها في الكتاب.
يفحص الفصل الثاني، حلول كاذبة، الأفكار الأكثر شيوعاً للتغلب على الأزمة الحالية. حيث أن الحلول السابقة كانت تعتمد عرض نقاشات طويلة الأمد هدفها تحليل الاتحاد الأوروبي، بدلاً من البحث عن منظور نوعي مختلف يمكن من خلاله تقييم التكامل في الإتحاد ومراجعته. فالدفع بإتجاه المضي قدماً في عملية التكامل لن يؤدي إلى معالجة جذور أزمة الاتحاد الأوروبي. على العكس من ذلك، إذا بدأت بعض الحكومات بالذهاب نحو فك الاندماج أو التكامل، وفي بعض الحالات اختارت فصل نفسها عن المشروع الأوروبي ــ كما فعلت المملكة المتحدة مع الإشارة هنا أن الكتاب وضع خلال مرحلة خروج بريطانيا من الإتحاد ــ وبالتالي لن تكون الاستقلالية التي اكتسبها بعيداً عن الحكومات الوطنية عاملاً مساعداً في حل مشاكله اليوم. ولذلك فإن تبني أي معيار يشبه "أكثر مقابل أقل" سيزيد من إستقلالية للإتحاد، ولكنه سيشكل إطار عمل غير مُرضٍ عند التفكير في مستقبل تعاون الاتحاد الأوروبي. وبعد أن رسم الكاتب الخريطة لطبيعة الأزمة السياسية في داخل الإتحاد والتحديات التي تمثله نراه يستكشف طرقاً بديلة للمضي قدماً.
يكشف الفصل الثالث، مشكلة الديمقراطية، وهي عنوان الفصل، المتنامية في الاتحاد الأوروبي. إنه يدرس الافتقار إلى المساءلة الديمقراطية الفعالة والشرعية التي تتخطى الأبعاد المختلفة لمأزق الاتحاد الأوروبي. اذ تكرر الحديث عن نقص الديمقراطية في الاتحاد خلال أزمات العقد الماضي. ومع ذلك يحاور هذا الفصل أنه من الهام التمييز بين عناصر المختلفة المكونة لهذه المشكلة المتصاعدة.
بناءً على تشخيص ما سبق من الفصلين السابقين، يرسم الفصلان الرابع، مشروع المواطنة الأوروبية، والخامس، ميثاق المواطنين الأوروبيين، طرقاً مختلفة لإضفاء الطابع الديمقراطي على مشروع التكامل بناء على المشاركة المدنية المفتوحة. وأهم ما يحتاجه التعاون الأوروبي، تجاوز التركيز على الاتحاد بين الدول إلى مفهوم الشراكة بين المواطنين. اذ يجب أن يكون الاتحاد الأوروبي قبل كل شيء صدى قوي لأصوات المواطنين، ويستلزم ذلك عمليات مشتركة من المشاركة الديمقراطية المباشرة وغير المباشرة. لذا يفصل الكاتب في هذين الفصلين حول المبادرات المدنية التي ظهرت أو أخذت زخماً قوياً في أعقاب الأزمة. ثم يعود ليشرح كيف يجب توسيع هذه المبادرات نحو اتجاهات أكثر طموحاً. ولهذه الغاية، أقترح الكاتب "ميثاق المواطنين الأوروبيين" عنواناً الفصل الخامس، لأنه ضروري لحسم تدفق دفع العمل من القاعدة إلى القمة للتغيير السياسي والتنافس على السلطة. إنه إطار يوفر طريقاً واعدة نحو المضي قدماً نحو خيارات الإصلاح الحالية في الاتحاد الأوروبي، لأنه يعمل بناء على مزاجات التنمية الاجتماعية.
يرى يونغس في الفصل السادس أن "أوروبا المتباينة: نحو مرونة جذرية"، وأن السمة الغالبة لأوروبا اليوم هي التعددية: التنوع المتزايد في تفضيل سياسات على أخرى. أمر يدفع نحو تقبل الأهداف والقيم بين البلدان وبين المجتمعات. ففي أوروبا التعددية، لا يمكن أن تعتمد الحلول والمشاكل على حل منفرد، ويجب أن تكون الحلول مقبولة أو مناسبة للجميع. وبالتالي، لا يكمن التحدي الذي يواجهه الاتحاد الأوروبي اليوم في العثور على نماذج سياسة فردية مثالية، ولكن بالسماح لعناصر مختلفة من سكان أوروبا التعبير بطرق مختلفة عن الأهداف المشتركة وعلى نطاق واسع. ويعارض هذا الفصل مفاهيم أوروبا ذات السرعتين أو السرعات المتعددة التي برزت في المناقشات الأخيرة، وبدلاً من ذلك، فإنه يدعو إلى شكل أكثر راديكالية من التكامل المرن القائم على مجتمعات السياسة الموجهة عملياً، ويوصي بالمرونة داخل الدول الأعضاء وليس فقط فيما بينها، ومفهوم "المرونة الديمقراطية" هنا يختلف تماماً عن شكل الهندسة التغيرية التي وضعها ودافع عنها المدافعون الحقوقيون والسياسيون التقليدون في الاتحاد الأوروبي.
يطرح الفصل السابع: "أوروبا آمنة؟" وموضوع الأبعاد الأمنية والدولية للأزمة.
ففي حين أن أوروبا تحتاج إلى إدارة حدودها بشكل فعال ومستمر، لكنها في الوقت نفسه تعرض نفسها للخطر عبر فتح حدودها ما بينها بهدف إنقاذ مشروع التكامل الأوروبي، لذلك يقترح هذا الفصل أشكالًا جديدة من التفاعل مع العالم الخارجي يمكنها أن تفعل إحياء روح التعاون الأوروبي عبر أشكال جديدة. فما يحتاجه الاتحاد الأوروبي "سياسة خارجية وأمنية أكثر شيوعاً" وبعداً أمنياً أعمق في السياسة الدولية. كما ويقترح يونغس "بُعداً مواطنيناً"، يدعو نحو آفاق جديدة، فإعادة التصميم المؤسساتي للاتحاد الأوروبي يغفل دائماً الجانب الأمني. اليوم، يعد هذا الجانب جزءاً من الأزمة السياسية في المؤسسية الداخلية، وبالتالي هناك حاجة إلى تنسيق أفضل ما بين التحديات، التي تواجهها أوروبا، أسواء الخارجية أم الداخلية، أي داخل دول الإتحاد.
يتبنى الكاتب في الكتاب منظورًا مختلفًا عن الروايات الأخرى لمخاضات الاتحاد الأوروبي الأخيرة، فعندما بدأت أزمة منطقة اليورو في العام 2008 ظهرت كتب ومقالات طغت عليها الأمور المالية والاقتصادية. ومنذ ذلك الحين، تعمقت أزمة الاتحاد الأوروبي وامتدت إلى مجالات أخرى مثيرة للقلق. وبعد مرور عقد على الأزمة يحاول الكاتب تقديم تقييم محدث للمراحل الأخيرة من الأزمة، إضافة إلى العمل الحالي وهو تقديم تحليل لوضع دول الاتحاد والتي تتعلق بصراع اليورو من أجل البقاء، وتصاعد النزعة القومية الشعبية، وتدفق اللاجئين. وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتهديدات الدولية الجديدة، وذلك ضمن إطار مفاهيمي واحد. فالأساس المنطقي للكتاب هو تزويد القارئ بصورة مركبة لكامل طبقات الأزمة المختلفة في الاتحاد الأوروبي.
ما لا يريده الكاتب في الكتاب، أن يفرض تغيرات دراماتيكية، وهو لا يقترح إتخاذ خطوة كبيرة نحو اندماج كبير، ما يريده هو على العكس من ذلك، ألا وهو تفكيك "أوروبا الدول القومية"، ولكن ليس على أساس السرعات بالعمل فهو يرفض كلياً المثالية المهووسة والقدرية الناتجة عن عودة القومية. ولذا فهو يقترح نهج جديد للتكامل الأوروبي يتطور مع التغيير الاجتماعي الذي يحدث اليوم في جميع أنحاء القارة.
لذا يتحدث الكاتب عن وجوب وضع تصميم جديد يتعامل مع مشاكل تتعلق باليورو والشعبوية والتحديات الأمنية والاختلافات بين الدول الأعضاء حول اللاجئين والمهاجرين، كما يجب إيجاد طريقة لإبقاء المملكة المتحدة تشارك بشكل بناء في التعاون القاري. ويجب أن تفعل ذلك في ظل خلفية سردية تشكك بمصداقية النظام العالمي. أمور في مجملها خلقت حالة من عدم الثقة السياسية ما بين المنتخبين وما بين القيادات في أوروبا وبخاصة تلك التي تدير السياسات في الإتحاد الأوروبي. وحالة عدم الثقة هذه ابتدأت منذ العام 2013. وأحد أهم أسباب التغير الهيكلي الرئيسي في الشكوك المتنامية حول التكامل في أوروبا سببه الاختلافات الواسعة النطاق ما بين الأقوياء وما بين الخاسرين، والتي دفعت بقوة باتجاه تنامي سياسة الهوية. ويستشهد الكاتب بالمؤرخ لوك فان ميدلار الذي يقول بأن صعود سياسة الهوية "لقد كانت صدمة وجودية" زعزت قدرة الإتحاد الأوروبي على التركيز بطرق تحويل التركيز من التوسع الإيجابي للحريات إلى "حماية المواطنين".
يرى الكاتب أن الإصلاحات التي تمت في اوروبا، والتي يبدو أنها اتبعت سياسة الإنفتاح على الشعب بدلاً من البقاء في داخل مقرات مغلقة قد اتخذت الإتجاه الخاطئ. صحيح أن هدف الاتحاد الأوروبي المعلن بالتواصل مع المواطنين مدعوم على نطاق واسع، ولكنه صعب. فهناك إصلاحات تحتاج إلى مدة طويلة الأمد لتحديدها بدقة ــ مما يعني أنه مع مرور الأعوام لم يتخذ الإتحاد أي خطوة للبدء بالمعالجة. وبالتالي فإنه يعتقد ما يحدث هو العكس، اذ كلما تابع الاتحاد الأوروبي جهوده في الإصلاح، كلما بدا أنها تضخم عيوب الاتحاد الأوروبي بدلاً من تخفيفها. مثل ذلك دافعاً آخر لكتابة الكتاب، فالكتاب لا يعنى فقط بوجوب إصلاح الاتحاد الأوروبي، ولكنه يسلط الضوء أيضاً على حجم التغييرات الحالية في داخله والتي تتحرك في الاتجاه الخاطئ. وكان هذا سبب منطقي آخر لكتابة هذا الكتاب، فبينما تدعو العديد من مقالات الرأي والمقالات إلى إحساس متجدد بالمثالية الأوروبية والوحدة الأوروبية، والتي لا تدعمها نظرية قابلة لتحقيق مشروع الوحدة الأوروبي بشكل جيد، ولذلك فإن الكتاب يحاول إيجاد النموذج القياسي القادر على قيادة الإصلاحات.
بموجب هذا النموذج القياسي، يُعرَّف التكامل على أنه السعي وراء نطاق أوسع من كفاءات سياسة الاتحاد الأوروبي المركزية، التي تحكمها قواعد قانونية صارمة وعمليات صنع القرار المضمنة التي تشمل المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي والهيئات فوق الوطنية الأخرى دون إهمال الدور القوي للحكومات الوطنية وذلك في معالجة القضايا الهامة، والتي تعمل ضمن قنوات ضعيفة في تطبيق الديمقراطية من القاعدة إلى القمة. نموذج لم يتغير بعد سنوات عديدة ويبدو أنه لا يستطيع مواجهة عاصفة الأزمة المستعرة بسبب مقاومته التغيير المطلوب على المدى البعيد. اذ يشبه الكاتب الاتحاد الأوروبي بالكنيسة في عمله، اذ تستجيب الخطب الكنسية للمخاوف المتطورة، لكن التعليمات الدينية لا تحتمل القيام بأي تغيير. وهذا ما يمكن أن يجعل الإتحاد الأوروبي خارج نطاق أي إصلاح نوعي، آخذين بعين الإعتبار أن هناك طروحات عدة للإصلاح ولكن اي منها لم يطبق حتى اليوم. وبناء عليه، فإن البعض يطرح خيارين: فإما أن يمضي الاتحاد الأوروبي قدماً نحو اتحاد سياسي كامل وتكامل أعمق على أساس نموذج التكامل الحالي، أو أن تقرر الحكومات أن الوقت قد حان لحل الاتحاد. وتأطير النقاش حول الخيار الثنائي لا يساعد في تحول الاتحاد الأوروبي إلى شيء مختلف، وبالتالي فهو يوضح أسباب تعثر القادة الأوروبيون في محاولة القيام بتغيير أساسي.
في ظل الأوضاع المتأزمة التي يمر بها الإتحاد الأوروبي ، والتي يرى الكاتب أنه يقدمها عبر قراءة جديدة، يحدد يونغس المعايير المختلفة للأزمة السياسية في داخل دول الإتحاد، ويطرح وهو يقيم من خلال قراءته للأزمة بما تطرحه من تحد عالمي للنموذج الحالي، وتأثيراته على الإندماج الأوروبي. وهدف الكاتب هنا ليس الخوض في عمل السياسات المحلية لكل منطقة من مناطق اليورو على حدة، وإنما الهدف هو توضيح مدى التشابه ما بين الأزمات في مختلف المناطق والأخطاء البنيوية لتحقيق عملية الإندماج الأوروبي. ولذلك فإن أحد المواضيع الهامة التي يناقشها الكتاب ويعود إليها مراراً وتكراراً، هو التصويت الشعبي في بريطانيا للخروج من الإتحاد الأوروبي، ومن خلال ذلك يمكننا ان نفهم لماذا يناقش الكاتب التكامل الأوروبي على أنه يجب أن يبدأ من القاعدة وينتهي في القمة وليس العكس.
وتتمة لما سبق، فإن شروط خروج بريطانيا، التي وضعها كبار المسؤولين في الاتحاد الاوروبي، أريد منها جعل خروج أية دولة أخرى من الإتحاد عملية قاسمة وصممت بشكل يجعل بريطانيا، أو أية دولة تحاول الخروج، تتخبط. ولذلك فإن فكفكة الخيوط المختلفة للأزمة السياسية في أوربا عامة والإتحاد خاصة، يمكنه أن يقيم إلى أي مدى تمثل الأزمة السياسية تحدياً منهجياً للنموذج الحالي للتكامل الأوروبي. وهدف يونغس هنا: شرح كيف يكشف كل بُعد من أبعاد الأزمة السياسات الفردية لكل دولة والأخطاء الهيكلية المشتركة في عملية التكامل الأوروبي وأن هذه الإخفاقات تعد حالة منهجية مستمرة. بعض الحكومات ومؤسسات الاتحاد الأوروبي تشعر أن الأسوأ قد انتهى، ولكن الكاتب يشعر أن الاتحاد الأوروبي يقترب من حالة التموت، لأنه غير قادر على رؤية واقعه الدقيق بأنه حالة طويلة من الحمل دون ولادة.
اذن لو قرأ البريطانيون هذا الكتاب قبل طرح موضوع الخروج لكانوا فهموا صعوبة الوضع بشكل عام على بريطانيا بعد الخروج. فهي حتى اليوم لم تستطع أن تستفيد من أية معاهدات تجارية مع الولايات المتحدة، وهي عاجزة حتى اليوم من أن تقدم أي اصلاح اقتصادي حقيقي. ولكن عند القراءة فيما وراء وجهات النظر الرسمية، لقد أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى توسيع الاختلافات بين الدول الأعضاء حول مستقبل الاتحاد الأوروبي. طرح بعض السياسيين خطاً متناقضاً، وهو أن التكامل يحتاج إلى التباطؤ وإعادة التفكير به، فيما الاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه، وبمرونة، يعمل على بناء علاقة إيجابية مع المملكة المتحدة، في حين أن دول من وسط وشرق أوروبا تبدي نيتها في الضغط من أجل إعادة السلطات إلى الحكومات الوطنية والإصرار على منع فرنسا وألمانيا من استخدام خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كمنصة يمكن من خلالها تسريع التحركات نحو الاتحاد السياسي.
واحدة من المشاكل التي يواجهها الإتحاد الأوروبي هي مشكلة اللاجئين، فقد وصفت الفاينانشيال تايمز الطفرة في أعداد اللاجئين والمهاجرين بأنها "أخطر حالة طوارئ في تاريخ الاتحاد الأوروبي". اذ طغت الأزمة على ما يسمى بنظام دبلن، والذي بموجبه من المفترض أن يقوم اللاجئون بالتسجيل في الدولة العضو التي وصلوا إليها لأول مرة، ودفعت للجوء إلى الاتحاد الأوروبي لحل مشكلة اللاجئين المتفاقمة حين أصبح من المستحيل على اليونان وإيطاليا الإستمرار بإدارة هذا النظام. تبنى حينها وزراء الداخلية في الإتحاد قراراً بنقل 160 ألف لاجئ عبر الدول الأعضاء. ومع ذلك، رفضت معظم الحكومات تنفيذ هذا الاتفاق، مع العلم أن تمريره تم بأغلبية الأصوات، وليس بالإجماع. والسبب الأساسي في ذلك أن دول الإتحاد الأوروبي لا تتمتع بقوة الإقتصادية ذاتها التي تتمتع بها دول كبرى في الإتحاد مثل ألمانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية وهولندا وبريطانيا سابقاً، وأن بعض دول الإتحاد عانت خلال الأعوام الماضية أزمات اقتصادية حقيقية وبعضها وصل حد إعلان الإفلاس كما حدث في اليونان.
لكن جاء في الكتاب كلام متناقض حول تأثير اللاجئين الكبير على أوروبا، التي دخلها ما بين الأعوام 2016- 2017 أكثر من مليون لاجئ من سوريا والعراق وأفغانستان. وخلقت مشكلات كثيرة لأوروبا وقد حاولت دول وقف تدفق الاجئين عبر منطقة البلقان وسد الثغرات فيها. وأهم ما واجهته اوروبا، بحسب الكتاب، هو المشكلات الأمنية. وقد ارتبطت مع هذه المشكلة، مشكلة أوروبية داخلية تتعلق بنمو الشعور القومي أو الشعبوية في الدول التي استقبلت المهاجرين، ويرى الكاتب أن المشاعر الشعبوية مفسدة للتكامل الأوروبي، ولكن يبدو أن تأثيرها الأكبر كائن في فقدان المواطنين التأثير في سياسة الإتحاد الأوروبي عبر النخب الوطنية المحلية المنتخبة. ثم يقول أن المشاعر الشعبوية نمت معها الحركات اليمينية المتطرفة، الناشئة عن مشاعر الغضب بسبب عدم استجابة النخب للإرادة الديمقراطية للشعوب. يقدر للكاتب قدرته على القراءة قبل أربع سنوات عن نتائج هذه المشكلة بالذات، والتي كانت واضحة للعيان بسبب تصرفات المتطرفين في أوروبا، وأثره حول ما ستؤول إليه الأمور إذا ما ترشح أشخاص مدعومين بقوة انتخابية كبيرة، وقد توج هذا الأمر اليوم بوصول اليمين المتطرف للحكم في إيطاليا، ولكن بعكس ما قاله الكاتب: فإن هذا قد لا يدل على الموقف من المهاجرين، بقدر ما يدل على أن السياسات الإقتصادية الخاطئة في أوروبا وعبر مؤسسة الإتحاد الأوروبي، والتي كانت غير قادرة على حل المشاكل الإقتصادية في القارة العجوز.
علينا أن لا ننسى تأثيرات الأزمات الداخلية في أوروبا على منطقة اليورو والمشاكل المالية التي شهدتها بعض الدول الأوروبية وتراجع الإقتصاد فيها ونحن هنا نتحدث عن أزمة اليونان والأزمة الإيطالية. إن مشكلة منطقة اليورو الكبرى، هي أن التقدم الإقتصادي في الدول الأعضاء ليس على مستوى واحد أو على الأقل ليس متقارباً، وقد تدخلت الدول القوية مثل ألمانيا وفرنسا مرات عدة من أجل الحفاظ على قيمة اليورو مقابل الدولار. هذه الحقيقة تستخدم اليوم من قبل السياسيين المحليين من أجل دفع الدول الكبرى في الإتحاد إلى التوقف عن مساعدة الدول التي تعاني من الأزمات الإقتصادية. وهنا تبرز أهمية ما يطرحه الكاتب حول الإندماج من القاعدة باتجاه القمة وليس العكس. لأن هذا النوع من الإندماج يمكنه أن يشعر أوروبا أنها قوة واحدة متكاملة، ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك ونحن نعلم أن أوروبا مثلت لقرون طويلة جداً وحدات منفصلة حاولت فرض سيطرتها الإستعمارية على أوروبا من خلال الإحتلالات والإنتهاكات، وحملة نابليون أو حملة هتلر ليست أمثلة بعيدة في التاريخ.