حسين كوراني
إنّها الصرخة والنداء العابرة لكلّ الميادين في تاريخ المقاومة، صرخة الأمين العام المفدّى التي حضر صداها في نفوس وقلوب وأفئدة وأجساد المجاهدين في كلّ الجبهات والمحاور منذ الطلقات الأولى للمقاومين إلى اليوم .. منذ مواجهات كفرا وياطر في مثل هذا اليوم من العام 1992 مروراً بكل عمليات العزّ التي خاضها رجال الله على أرض الجهاد.
في مثل هذا اليوم من العام 1992 سطّر المجاهدون أروع الملاحم في ملحمة تاريخية تفوق أحداثها حدّ التصور لترسم معالم أساسية في ذاكرة الجهاد المقاوم، في أسطورة من أساطير الدفاع عن الأرض والعرض والشرف والكرامة، في أنموذج يحاكي نماذج عمليات العزّ والبطولة على الحدود وفي كافة الجبهات والمحاور، في رواية تختصر معانيها الفداء والتضحية والإيثار والتعبئة لمواجهة عدوّ متغطرس حتى إذلاله.
مشهدية اندحار العدو بعد تلقيه الطلقة المنبعثة من قوة صلبة تخرق صدور الأعداء تتكرر في كل مشهديات بطولات المقاومة، وهكذا حصل في مواجهات كفرا ياطر بتاريخ 20 شباط عام 1992 التي نشهد ذكراها اليوم، فنستعيد ما حصل لنؤكد المؤكد أنّ الرعب يسير أمام المقاومة.
آنذاك، وبعد أن علمت "إسرائيل" أنّ جريمتها باغتيال سيد شهداء المقاومة السيد عباس الموسوي في 16 شباط/فبراير 1992، لن تمرّ دون عقاب، فتأهّب العدو ولوّح بالحرب على لبنان وبدأ بقصف عدد من القرى المحاذية للشريط الحدودي خوفًا من ردّة فعل المقاومة الإسلامية. وبالفعل، فقد التهبت محاور القرى المحاذية للشريط الحدودي المحتلّ، فردّت المقاومة بقصف المستعمرات بستين صاروخاً، فأوقفت قصف القرى من قبل جيش العدوّ إلى أن كان صباح 20 شباط 1992م حيث تقدّمت قوّة مؤلّلة نحو بلدتي ياطر وكفرا من جهة الشريط المحتلّ وعلى مشارف البلدتين، وتدخّلت المروحيّات وسلاح الطيران الحربي.
ولمزيد من التفصيل حول مجريات ما حدث في ذلك اليوم، أجرى موقع "العهد الإخباري" مقابلة مع أحد مسؤولي المجموعات القتالية التابعة للمقاومة والذي شارك في تلك المواجهات "أبو صالح" حيث يروي تفاصيل ما حصل ويقول: "ليلة 19 شباط/فبراير تلقّينا معلومات من غرفة عمليات المقاومة تفيد بأنّ أكثر من 20 دبابة ميركافا تتجمّع في موقع رشاف اللّحدي وحولها مئات الجنود المدجّجين، وعليه بدأنا بتوزيع المجموعات على شكل كمائن عند أطراف البلدة الشرقية والجنوبية، ونسّقنا مع مجموعاتنا المنتشرة في بلدة كفرا لإحكام الطوق على العدو في حال التقدم، وذلك بعد أن علمنا أن محور تقدمه سيكون بإتجاه مربع صربين حاريص ياطر كفرا للسيطرة على تلة الحقبان بين ياطر وكفرا ومن بعدها على تلال ياطر الشمالية الغربية، كما قام عدد من الشباب بإستقبال الشباب التعبويين القادمين من بيروت وقرى الجنوب والبقاع إلى البلدتين للدفاع عنهما".
ويضيف أبو صالح "بدأنا بزرع العبوات عند المربع، ومع تقدم أول رتل دبابات في صباح 20 شباط/فبراير وانتشار مكثّف لطائرات الآباتشي في الجو، فجّرنا عبوة بالدبابة الأولى وتصدينا بالأسلحة المناسبة للمروحيات، وأمطرنا الرتل بعدد من قذائف أر بي جي والأسلحة المتوسطة حتى قتل وجرح من بداخل تلك الدبابة، وكان من القتلى قائد هجوم الكتيبة.
ويلفت إلى أنّ إحدى مجموعاتنا إنقضت على الرتل من جهة الخلف وأحكمت عليه الطوق وبدأت بالإشتباك مع أفراده حيث قُتل 15 منهم وجرح العشرات حسب إعترافات العدو، ليعجز العدوّ على اختراق طوق المجاهدين الذين كانوا يلتفّون عليه من كل حدب وصوب.
ويشير أبو صالح لـ"العهد" إلى أنّه بالتزامن مع التقدم البري للعدو حاولت قواته يائسة للسيطرة على تلال ياطر من خلال إنزال جوي، وكانت الثلوج تغمر البلدة وسط ضباب كثيف. وحينها قال قائد المنطقة الشمالية لجيش الإحتلال الجنرال عميران ليفين لقواته "إنّ ياطر بوابة الجنوب عليكم بإسقاطها، وعندما تسقط حتمًا سيسقط القطاع الغربي".
ولكن المقاومين تصدوا أيضًا لمروحيات العدو وباءت محاولته الأخيرة بالفشل، وعندها أمر جنوده وضباطه بالتراجع والإنسحاب عند مساء ذلك اليوم ومُنيَ بهزيمة كبيرة، وراح المقاومون يطاردونه ويلاحقونه، لكنّه واصل قصفه المدفعي الهمجي الكثيف على بلدتي ياطر وكفرا حتى صبيحة 21 شباط/فبراير مخلفًا دمارًا هائلاً في المنازل، ولم يصب أحد بجروح ممن تبقى من المدنيين.
عملية أثبت فيها المقاومون أنّهم قوة لا يُستهان بها وقادرة على إلحاق الهزيمة بالعدو مهما هدّد واستعلى واستكبر، وبالفعل في تلك المواجهة حاول العدو استخدام كل أدواته القتالية البرية والجويّة لكن الأرض والسماء وما بينهما شهدوا على أنّه فشل فشلًا ذريعاً نتيجة قوة صمود عبّر عنها المقاومون بشجاعة منقطعة النظير على أرض الميدان وعلى مدى يوم طويل. هم لم ينتظروا إلى اليوم التالي ليحققوا النصر بل ما إنْ حلّ المساء حتى كان جنود العدو قد تروّعوا من هول المشهد وأصيبوا بالذهول والصدمة من حجم الكارثة التي لحقت بهم.
والعبرة أنّه بعد مرور 29 عاماً، أليس لهذا العدو أن يعتبر من عملية خاضها شباب أشدّاء في وقت كانت المقاومة في بداياتها وهزم فيها هزيمة نكراء، فيما اليوم المقاومة خاضت عمليات على صعيد محور، وهي في طورها الأقوى تملك قدرات قتالية واستخباراتية كبرى وصواريخ قادرة على الوصول على أيّ هدف في الجبهة الداخلية في كيان العدو والتي ستواجه وقائع لم تواجهها منذ قيام هذا الكيان منذ العام 1948، وأنّ الزمن الذي كان يهدّد فيه العدو انتهى حيث نحن في زمن مختلف. وباختصار أنّ اليوم هو الزمن الذي إذا أخطأ العدو وارتكب حماقة سوف يشهد جنوده حينها لوعة مواجهات كفرا ياطر بطريقة يشهدون فيها نيران جهنّم تلتفّ حول أعناقهم وأجسادهم وكيانهم.