"العهد"
أنزلت المقاومة الاسلامية واحدة من أقسى الهزائم العسكرية في تاريخ جيش الاحتلال الاسرائيلي في مواجهة والتحام مباشرَين، لا سيما أن الهزيمة لحقت بإحدى أهم وأقوى الوحدات العسكرية المنظمة في ما كان يعرف بأفضل الجيوش في العالم.
بعد منتصف ليل 4 ـ 5 أيلول/ سبتمبر 1997 قامت قوة كوماندوس اسرائيلية بعملية انزال في خراج بلدة انصارية، وشاهدها مجاهدو المقاومة الاسلامية الذين كانوا بانتظارها. أحكمت مجموعات الحرس الليلية الطوق حولها وفجرت عبوات ناسفة كبيرة كانت مزروعة في المسالك التي كان ينوي الجنود سلوكها. هذه الانفجارات أدت الى تفجير عبوات كان يحملها أفراد الكوماندوس، وفي الوقت نفسه، امطرهم المجاهدون بوابل من نيران رشاشاتهم لتندلع على الاثر مواجهات ضارية، تدخلت فيها المروحيات الاسرائيلية في محاولة لمساندة القوة الاسرائيلية المعادية وسحبها بعدما قتل معظم أفرادها وتناثرت اشلاؤهم في المكان. عمدت قوات الاحتلال الى انزال قوات اضافية في محيط المواجهات في انصارية وملعب خيزران لنجدة القوة المحاصرة وسحب الجثث، فتصدت لها المضادات الارضية التابعة للمقاومة الاسلامية والجيش اللبناني، وأصيبت مروحية معادية تمكنت من الاقلاع والهبوط اضطراريًا في مستعمرة نهاريا. وقد استمرت المواجهات حتى الرابعة والنصف فجرًا، وخلفت القوة المعادية وراءها جثة قتيل واحد وأشلاء جنود آخرين فضلًا عن أعتدة وأسلحة توزعت في أرض المعركة. وقد اعترفت قيادة الاحتلال العسكرية حينها بمقتل 12 جنديًا من قوة الكوماندوس البحري وفقدان جندي آخر واصابة أربعة.
وروى بيان لهذه القيادة تفاصيل المواجهات وذكر ان "مروحية تابعة لوحدة الانقاذ تعرضت لنيران هاونات ومضادات أرضية وأصيبت المروحية ولكنها تمكنت من الاقلاع والهبوط اضطراريًا في نهاريا، وقد قتل طبيب قوة الانقاذ النقيب "ماهر دعشى" في اثناء محاولات الانقاذ، فيما قتل طبيب آخر برتبة رائد هو "تساحي بين طوف" وهو طبيب وحدة الكوماندوس البحري". وعُلم أن القتلى الـ12 الذين استطاع الجيش الاسرائيلي سحبهم من ساحة المعركة هم: قائد القوة المقدم يوسف كوراتي (32 سنة) الرائد تساحي بن طوف (28 سنة) النقيب دغش (26 سنة) النقيب رام ليفنت (22 سنة) النقيب سيفيك روتمن (21 سنة) المساعد راس سابي (22 سنة) المساعد اربيه ابرامسون (20 سنة) المساعد يوحنا هيلبميرغ (21 سنة) الرقيب اول غابي غوسان (21 سنة) الرقيب اول غال رودوسكي (20 سنة) والرقيب اول باميد شمفيل (20 سنة) والرقيب ايتمار ايليا".
الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله عقد مؤتمرًا صحافيًا حينها أكد خلاله أن "ما حصل هزيمة اسرائيلية وخسارة كبيرة للمؤسسة العسكرية ولأجهزة الامن الاسرائيلي"، وكشف أن المقاومة الاسلامية كانت تتوقع العدوان ونشرت مقاتليها في مختلف الاماكن المحتملة، مؤكدًا سقوط ما بين خمسة وعشرين الى ثلاثين قتيلًا بخلاف اعتراف "اسرائيل" بمقتل اثني عشر جنديًا، وقال إن لدى المقاومة أشلاء أكثر من جندي اسرائيلي واحد تركتها وحدة الكوماندوس المنهزمة، وأشاد السيد نصر الله بالدور الذي لعبه الجيش اللبناني في المعركة.
وقد عثر في الحقل الذي نزلت فيه قوة الكوماندوس الاسرائيلية على أشلاء بشرية، وعلى أربعة رشاشات من طراز "أ ـ ك 47" واربعة رشاشات كلاشنكوف صفراء وبندقية رشاشة "ام ـ 18" ومسدسات وأحزمة مدججة بالذخائر، وعلب اسعافات اولية، وضمادات ملطخة بالدماء وامتعة يستخدمها الغطاسون وسترات واقية من الرصاص. وقال خبير متفجرات لوكالة الصحافة الفرنسية ان المجموعة تركت وراءها ست ساعات تفجير وقاربًا مطاطيًا.
مصادر عسكرية في الجيش اللبناني تحدثت عن أن دور الجيش كان أساسيًا في احباط العدوان الاسرائيلي، حيث تولت مراكز الجيش في المنطقة الرصد المباشر والمراقبة الدقيقة لتحركات القطع البحرية والجوية الاسرائيلية حتى لحظة انزالها ودخولها منطقة العملية، وتعاملت وحدات الجيش مع القوة الاسرائيلية فورًا، وأطلقت في سماء المنطقة عشرات القنابل المضيئة مما سهل كشف القوة والتعامل معها. المستشار السياسي والناطق الرسمي باسم القوات الدولية العاملة في الجنوب اللبناني تيمور غوكسيل علق على عملية الكوماندوس الاسرائيلي وقال إن "مبرر هذه العملية غير واضح، خاصة أن الانزال حصل في منطقة تبعد أكثر من ثلاثين كيلومترا من الشريط المحتل".
على المستوى الرسمي، عقد الرؤساء الثلاثة الياس الهراوي، نبيه بري ورفيق الحريري اجتماعات تم خلالها التداول بموضوع العدوان، وأجرى الحريري سلسلة اتصالات خارجية شملت الرئيس الفرنسي جاك شيراك وعددًا من المسؤولين في الادارة الأمريكية، وقد تمنى عليهم القيام بالاتصالات اللازمة لتهدئة الوضع في الجنوب والعمل على منع حصول اعتداءات اسرائيلية جديدة. من جهتها، حثت وزارة الخارجية الاميركية جميع الأطراف المعنية على ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، وقال نائب الناطق باسم الخارجية جيمس فولي "نظرا لحساسية الوضع العام في منطقة الشرق الاوسط، ولأننا لا نستطيع أن نتحمل تصعيدًا في حلقة العنف، علينا نزع فتيل التوتر في جنوب لبنان". وقد نقل سفير لبنان في واشنطن محمد شطح الى المسؤولين الاميركيين في وزارة الخارجية وقائع ما جرى وقال: "ان العملية الاسرائيلية تظهر انه حان الوقت لكي تعيد اسرائيل النظر في وجودها في لبنان وان تنسحب منه".
وفي المقلب الاسرائيلي، وصف رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو هزيمة انصارية بانها "كارثة تطفح بالحزن.. انها واحدة من اسوأ الكوارث التي واجهناها، ولست أبالغ اذا قلت إننا فقدنا بعض أفضل جنودنا.. انه يوم حزن عميق وأسى مضاعف لشعب اسرائيل". وحمل رئيس حزب "ميرتس" - آنذاك - يوسي ساريد بشدة على نتنياهو، محملا اياه المسؤولية، وقال: "ان الحزن والالم هما حزننا جميعًا، ولكن السياسة هي سياسة نتنياهو الذي وعد بالامن والسلام، وسياسته تجلب لنا الكارثة تلو الكارثة"، واعتبر ساريد انها "الايام الاشد قتامة في تاريخ اسرائيل". ونقل تلفزيون العدو عن وزير البنى التحتية في حكومة العدو ارييل شارون قوله "ينبغي اعادة النظر في اسلوب العمل الامني في لبنان".
وفي مقابلة تلفزيونية قال وزير الحرب الصهيوني - آنذاك - اسحق موردخاي "ان العملية استهدفت مكانا يفترض ان مستوى اليقظة والتأهب فيه سيكون متدنيا.. ان كل الاحتياطات اتخذت لضمان نجاح العملية ولكن لا اعرف ماذا حدث بالضبط".
الى ذلك شكل رئيس الاركان الاسرائيلي ـ آنذاك ـ امنون شاحاك لجنة تحقيق عسكرية خاصة لتقصي الحقائق حول فشل عملية الانزال في انصارية برئاسة الجنرال غابي اوفير. وقد التقت اللجنة بقيادة وعناصر وحدة الكوماندوس التي ينتمي اليها الجنود القتلى، واوضحت اذاعة العدو ان قوة الكوماندوس كانت نفذت عمليات "ناجحة" داخل العمق اللبناني، وان العملية الاخيرة تم الاعداد لها على مدى اسبوعين قبل ليلة التنفيذ.
وبموازاة ذلك، استقبل الامين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله مجموعات الحراسة التي واجهت قوات الكوماندوس واشاد ببسالة المجاهدين وصلابتهم في المعركة المظفرة، مشددًا على جهوزية المجاهدين في مختلف المناطق اللبنانية تحسبًا لعدوان مماثل، وجرى في نهاية حفل التكريم توزيع الهدايا ونسخ من القرآن الكريم وقطع قالب الحلوى احتفاء بالانتصار.
وردًا على لجوء العدو الصهيوني الى فرض التعتيم الاعلامي على صور اشلاء جنوده المتناثرة في انصارية ومهاجمته للصحافة الغربية لنشرها هذه الصور حرصا على معنويات جنوده المنهارة، قام حزب الله بتوزيع عشرات الصور لاشلاء جنود الاحتلال على شبكة الانترنت في اطار استكمال حربه النفسية ضد العدو. وبعد مضي اكثر من ثلاثة اسابيع على تشكيل لجنة التحقيق، وعلى الرغم من التعتيم الشامل والرقابة الشديدة المفروضة على وسائل الاعلام الاسرائيلية اشارت صحيفة "هآرتس" الى أن اللجنة قررت توجيه كتب انذار لستة ضباط تتراوح رتبهم بين رائد وعميد وتحدثت عن "مواضع خلل استخبارية" في التخطيط للعملية.