هدى محمد رحمة
هي مواسم الشهادة التي لا تنضب، وهم الشهداء، يمهدون طريق الظهور بالأحمر القاني، أما لنا، فيوقظونا من بعض غفلة، أو كثيرٍ منها.
هو الشهيد "أحمد فياض مصطفى"، بوجه سموح مشرق وبضحكةٍ لم تفارق محياه الطيب. يبعث الفرح أينما حل، بين رفاقه هو البلسم لهم من هم الدنيا وغمها، كان وجوده كفيلاً لأن يزيل أي حزن. رفاقه يقصدونه ليفضفضوا له همومهم، فيخفف عنهم، وينسيهم ضغوط الحياة بروحه الطيبة ومرحه الخفيف.
هو المسامح بسرعة، حتى وإن أخطأ الآخرون بحقه، نظيف اللسان، والذي لا يرد الأذية بمثلها. كان يقصد ويحب الجلوس مع كبار السن، يأنس بهم ويؤنسهم. "الحاج أحمد" المتخلق بأخلاق آل بيت محمد الأطهار عليهم السلام، حريص على قضاء حوائج المؤمنين، لا يعرف بحاجة أحدٍ حوله إلا وسعى في قضاءها. كريم النفس، لا حدود له في مساعدة رفاقه أو أي أحد، يقدم الجهد والوقت والمال على حب أهل البيت عليهم السلام. يساعد مادياً كل من يعرفه بحاجته، في المنطقة التي كان دائم التواجد فيها ـ وتعد من المناطق الشعبية المحرومة ـ، كان الإخوان يقصدونه لطلب المساعدة منه لأي محتاج مادياً، مهما كانت الحاجة، إن كانت لشراء الطعام أو الدواء أو تصليح أي آلة مثلاً، وغيرها. حتى أنه كان دائم الدعم المالي في المناسبات الدينية للمنطقة، وبشكلٍ خاص في شهر رمضان وعاشوراء. لم يكن رفاق "الحاج أحمد" يجتمعون إلا وهو بينهم إن لم يكن في عمله الجهادي، وعند التخطيط لأي مشروعٍ للترفيه عن النفس، كان هو المبادر والسباق، بل ويتكفل بمعظم تكاليف المشوار، وكذا في إفطارات شهر رمضان على النهر، يصر على دفع القسم الأكبر من التكاليف قائلاً "على حب أهل البيت."
على الجبهات، كذلك لم تفارق الضحكة محياه، حتى في أشرس المعارك، هو صاحب يقينٍ وعقيدة. عرف نفسه فعرف ربه، وعرف أعداء الله، فقاتلهم قتال الأحرار، لاحقهم أينما حلوا ومن كانوا. تشهد له المعارك، وأبرزها معارك القصير وسلسلة لبنان الشرقية وضمنها جرود عرسال، خاصةً مواجهات ضهر الهوة. لم يغادر "الحاج أحمد" جرود عرسال حتى النصر واستسلام أمير جبهة النصرة "أبو مالك التلة"، ليعلن بعدها سماحة السيد حسن نصرالله عيد التحرير الثاني. لم يكن "الحاج أحمد" يتقاضى أي مبلغ عن عمله الجهادي، كان متطوعاً. حتى أنه عند علمه بأي معركةٍ قريبة كان هو من يطلب بل ويصر إصراراً شديداً على الإلتحاق والقتال. فهي معركة الحق والباطل، وهو من أهل البصيرة والحق. كيف لا وهو حتى في الخطوط الأمامية دائم الإبتسامة وبشاشة الوجه، هو الذي استهزأ بالموت فقهره.
حين علمه بتجدد المعارك في ريف حلب، هيأ نفسه وروحه للإلتحاق دون أن يُطلب منه، بل هو من سعى جاهداً للذهاب والجهاد، فهو على موعدٍ مع الشهادة، في بلدة "الطلحية" في ريف حلب. قبل انطلاقه إلى سوريا بأيام كان يسهر مع رفاقه في أحد المقاهي، وقبل أن يغادر ترك مبلغاً من المال لصاحب المقهى وقال له "ضيافة للشباب".
خلال تواجد "الحاج أحمد" في حلب ورده إتصال مفاده أن عليه النزول إلى لبنان في عملٍ سيتقاضى عنه عدة آلافٍ من الدولارات. أسرّ هنا "الحاج أحمد" لصديقه "هيدا إمتحان بين إنو إنزل وأقبض هالمبلغ، وبين إنو ضل هون مع المجاهدين، وأنا أكيد رح ضل هون."
وأوكل "الحاج أحمد" هذه المهمة بدلاً عنه لأحد أصدقائه في لبنان وهو من الإخوان المحدودي الدخل. أقام الحاج أحمد وهو في أرض الجهاد مأدبة غداءٍ للمجاهدين على حب السيدة الزهراء عليها السلام. ووعدهم بأن يقيم لهم "دبيحة" على حب أهل البيت عليهم السلام، لكن الشهادة سبقته. في الثامن والعشرين من شباط/ فبراير، في بداية أشهر نورٍ مباركة، كانت شهادته ضوءاً لقلوبٍ احتاجت أن تزيح بعض عتمة وسُبات، فالحاج أحمد خلّد إسمه ضوءاً في قافلة الأحرار، وصار "الشهيد أحمد"، ضمن كوكبة شهداء انضموا إلى أمراء أهل الجنة، والتحقوا برفاقهم الشهداء ممن سبقوهم. وهو الحاج أحمد الذي احترق شوقاً لرفاقٍ عرفهم وعايشهم وجاهد معهم، واليوم، انضم إليهم.
هو "أبو محمد"، المتعلق بعائلته، رفيق ابنه وبناته الخمس، زرع في ابنه الوحيد بذور الجهاد ليكمل الطريق من بعده. حرص على حسن تربية ابنه وبناته ليكونوا صدقةً جاريةً في الحياة كما كان يعبر. واليوم ابنه ووحيده "محمد" يجدد العهد الذي زرعه فيه أباه وفخره الشهيد، يخبره أن زرعه اخضر، وسيزهر مواسم بأسٍ وجهاد. وبناته ملتزمات بوصاياه التي دونها بالأحمر، يخبرنه بأنهن عزيزات معتزات بوالدٍ أورثهن أعز لقب، بنات الشهيد، وما أجله من لقب!
هو "الشهيد أحمد"، من عاش وترجم أخلاق آل بيت محمد. ومشى إلى الحسين بقدميه وقلبه وروحه وعرقه وجهاده، زاره في الأربعين عام 2018، وكان يزوره مع كل نفسٍ وكل طلقةٍ في ميادين الجهاد، لتطبع الشمس على وجهه وزنوده معالم الجهاد، ويصل إلى أبا الشهداء عليه السلام شهيداً مطهراً، ويصير ضريحه مكان جلسات رفاقه وسهراتهم، وعنده يجددون العهد والوعد حتى ظهور الآخذ بثأر آل محمد، بأنهم أبناء أمة لا تبخل بالعطاء، لأنهم أبناء ذاك الإمام الذي قال "خُيِّرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه، من كان باذلاً فينا مهجته وموطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا."