هدى رحمة
قُطعت كفاه، انطفأت عينه، فُتحت جبهته، حتى عينه الثانية ظن أنها انطفأت لأن دم جبينه حجب الرؤية عنها.
في هكذا مشهد، فوراً قال: "فدا أبي الفضل العباس."
لم يحزنه في هول الإصابات سوى أنه لم يعد قادراً على أن يقاتل مع رفاقه، لم يعد قادراً على الدفاع عن مقام عمته السيدة زينب عليها السلام.
هو الجريح السيد "مهدي شكر"، ابن منزلٍ إيمانيّ جهاديّ، فيه طريق الجهاد نهج وأساس، ابن بيت قولٍ وفعل. والده السيد "فايز شكر" أول ما قاله له بعد الإصابة "نحن نعطي للناس دروساً ومواعظ، إن لم نطبقها على أرض الواقع فلا قيمة لها، كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم، في الأفعال."
يقول مهدي "الابن م في أغلى منو عند الأهل، بْثَمِّن الجهود اللي بذلوها أهلي وإخواتي اتجاهي، أنا وياهن كنا قوايا، أهلي رافعين راسهن وأنا رافع راسي فيهن وبالإصابه."
انتمى مهدي إلى الخط الجهادي منذ العام 2003، وبدأ يتدرج في الدورات الثقافية والعسكرية، ومن بداية معارك الدفاع المقدس في سوريا كان من أول المدافعين. شارك في أعنف المعارك، في معارك الغوطة، ريف حمص، السلسلة الشرقية، ريف القصير، والقصير. يذكر مهدي حوادث فائقة الصعوبة كانوا يواجهونها في سوح الوغى "هذا التحمل هو من الله، الله يمدنا بالعزيمة." عندما يتحدث مهدي عن رفاقه الشهداء أثناء المعركة يؤكد أنه كان يرى وجوههم أنواراً. كذلك عندما يُحَدّث عن رفيق عمره الشهيد مهدي ياغي، الذي شاركه نفس تاريخ الميلاد في 21 آذار/ مارس من العام 1989، وشاركه اسم صاحب اليوم المبارك المولود في 15 شعبان صاحب الزمان (عج). أول ما قاله الشهيد مهدي ياغي لرفيقه الجريح مهدي شكر وهما في المدرسة في المرحلة الابتدائية "أنا بعرف اسمك إنت، إنت اسمك مهدي"، في إشارة منه إلى أنهما يحملان نفس الاسم. وترافقا من يومها في الدراسة ولعب كرة القدم، والطفولة والشباب. علاقة متينة كانت تربطهما، ولاحقاً ترافقا في الجهاد، فهما المهدويان شهادةً وجراحاً.
في أواخر نيسان/ أبريل من العام 2015، انفجر لغم بمهدي، قُطعت كفاه، انطفأت عينه، انشقت جبهته، جُرح ذقنه وصدره ويده اليسرى، وملأت الشظايا جسده، ومع اعتقاده حينها أنه فقد عينه الثانية بسبب الدم النازف من جبهته، يُقسم أنه لم يحزن لما أصابه، الأمر الوحيد الذي عز عليه هو أنه لن يستطيع حمل البندقية والدفاع عن المقدسات.
يقول مهدي "في الصبر نحن ثقتنا أهل البيت، الله من يعطي الصبر، ونحن لدينا مدرسة أهل البيت، الإمام الحسين، السيدة زينب، أبو الفضل العباس... هؤلاء يعطونا الدروس ونحن نتعلم منهم."
في مرحلة ما بعد الإصابة، وخلال الواقع المستجد، لم يتقبل المجاهد مهدي نظرة شفقة من أحد، بل يستبدلها فوراً بنظرة إعجاب وفخر به. هو مهدي وكما كان رفيقه الشهيد مهدي ياغي، ذو روح مرحة، حتى رفاقه كانوا يسرون له أنهم كانوا ينسون إصاباته، لأنه المزوح خفيف الظل.
اعتبر مهدي بعد ما فقده من أعضاء جسده، أن مسؤوليته هي أن يثبت للناس أن هذا الفقدان لم يؤثر عليه، وهو الذي تقبّل الجراح بقبولٍ حسن. صار يفكر بأن عليه الاستمرار، يقول بكل ثقة: "وإذا راحوا كفوفي وعيني، عادي، الله بيعطي وبياخد، هيدا الشي صدقاً بعنيه."
مهدي الشاب المثقف النهم للقراءة والحفظ، يؤكد "نحنا شباب حزب الله منتقن حمل الباروده، بس كمان منتقن الحكي والقراءه والكتابه، وحتى منعطي دروس بالثقافه."
هو حفيد آل بيت محمد الأطهار الذين يقولون "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف". وعن يومياته يعتبر مهدي أن الإنسان يتكيف بحسب ما يربي نفسه ويصقلها، والأساس هو أن لا يضع نفسه في مواقف إحراج فـ"رحم الله امرءاً عرف حده فوقف عنده". أجاد مهدي تربية نفسه على عدم التعلق بشيء، وأن يكون أصلب من أي أمر يمكن أن يؤثر عليه أو أن يمر به. حتى أنه وصل إلى مرحلة أنه لا يشعر بأن هناك اي أمر محظور عليه أو غير قادر على القيام به. يقوم مهدي بنفسه بكافة أموره الشخصية، وحتى قيادة السيارة.
قبل الإصابة، كان مهدي دائماً ما يقرأ لرفاقه المجاهدين الأدعية واللطميات، وهو المتميز بصوته. كثر كانوا يطلبون منه ويقترحون عليه أن يقوم بتسجيل الأدعية واللطميات على أقراص كي تنتشر ويسمعها الناس. وكانت إجابته حينها أنه يكفيه استماع المقاومين الصادقين في سوح الوغى لصوته. لكن بعد الإصابة، وبعد سماع الناس له وهو يردد اللطميات لرفاقه المجاهدين صاروا يطلبون منه أداء اللطميات، وكذا فعل، وهو الصادق بلسانٍ يلهج ذكراً بآل البيت وأبطال كربلاء قولاً وفعلاً.
يرفض الجريح مهدي أن يقارن بأبي الفضل العباس عليه السلام، يقول بكل عفوية "أبو الفضل العباس هوي قمر بني هاشم، نحنا ناس فقراء، شتان بين الثريا والثرى. أبو الفضل العباس هوي رمز البطوله، رمز النخوه، رمز الشجاعه، رمز الإيثار، رمز محاربة الظلم والإستبداد، ومواجهة الظلم والاستبداد، رمز الدفاع عن المظلومين ونصرة الحق".
يحمد مهدي الله على إصاباته "يعني الحمد لله شاء الباري جل وعلا إنو تكون إصابتي بكفوفي وعيني وجبهتي، أبو الفضل بيضل ببالي بهيدا الموضوع. بعاشوراء بس يجي مجلس أبا الفضل العباس دغري ببلش إبكي لا إرادياً." يؤكد مهدي "بس تصاوبت صاروا رفقاتي يقولولي إنت متل أبا الفضل العباس، قلهن أنا فدا أبا الفضل العباس."
تزوج مهدي في عام 2018، وفي أيار من العام 2019 رُزق بابنته، زينب، اسمٌ دافع عنه في أشرس المعارك وأشدها ضراوة، إلى أن فقد كفيه، لكنه أجاد احتضان ابنته، كما كان يتقن حمل البندقية. هي بندقية مقدسة حملها للدفاع عن زينب، وكل زينب، وعفة زينب، وطهر زينب، ومقام زينب، هذا المقام الذي، بدماء الشهداء، وجراح الجرحى، وصبر الأسرى، وعناء المجاهدين، عاد يضج بالمحبين العاشقين.
مهدي، من أوائل المدافعين عن مقام عمته السيدة زينب عليها السلام جهاداً ونزفاً وعيناً، وكفين كانتا تلطمان الصدر على مصاب زينب والحسين، واليوم هو يلهج ذكراً وعزاءً لمصابهم، ويؤكد أنه لا يوم كيومهم.