هيثم أبو الغزلان
لم تكن تتوقع "أم خليل"، تلك المرأة الفلسطينية التي اقتلعتها العصابات الصهيونية وعائلتها من حيفا، وتسكن حاليًا في مخيم "عين الحلوة" للاجئين الفلسطينيين، مجيء يوم تستطيع فيه الاقتراب من الحدود مع فلسطين المحتلة؛ فالاقتراب من الحدود مع فلسطين المحتلة لم يكن ممكنًا قبل الخامس والعشرين من شهر أيار/ مايو من العام ألفين، فمنذ هذا التاريخ بدأ يشعر الجميع بطعم النصر الحقيقي على "إسرائيل".
كانت نُسيمات الهواء القريبة من الوطن المحتل مختلفة عمّا سواها. فشعرت ونجلها "ثائر" وصديقه "سامر" اللذين يرافقانها أن الطيور هناك غير خائفة، والسماء صافية على غير عادتها، والأرض مُبتهجة بعودة أصحابها الذين هُجّروا منها لسنوات إليها، كأنها تريد أن تستريح من عناء سنوات الاحتلال العجاف.
..انطلق ثلاثتهم يجولون في المناطق اللبنانية المحررة، حيث ابتهجت هذه البلدات فرحاً بالتّخلّص من كابوس الاحتلال. أصرّت "أم خليل" على الدخول إلى قلعة "الشقيف"، التي فجّر الجنود الإسرائيليون بعضاً منها، فهنا قد يكون استشهد شقيقها "فؤاد" في 1982، دفاعًا عن القلعة، التي تعني الكثير لها ولابنها، فتجوّلت مع ابنها وصديقه فيها، ولم يتركوا زاوية إلّا وداسوها؛ صعدوا إلى دشم المراقبة، ودخلوا إلى حيث كان جنود الاحتلال ينامون!! لم ترغب بمغادرة القلعة، وجالت بنظرها في كل زاوية فيها؛ فهنا قد يكون استشهد "فؤاد"، أو هناك، أو مع هذا التراب جُبلت دماؤه..
..
لم يكن يعلم "ثائر" ما الذي يدور بخلد رفيقه "سامر"، فهو قليل الكلام، مع أنه يدرس الاعلام في إحدى جامعات بيروت. هادئ الطباع، يصمت كثيرًا، يوحي بالطمأنينة لكن من يعرفه يدرك أن مرجلًا في داخله يغلي.. قد يُخيّل لبعض من يراه أنه جبان، لكن من يعاشره يدرك جيدًا مدى الشجاعة التي يمتلكها.. كان "سامر" يستحث "ثائر" ووالدته للإسراع فهو يريد معانقة فلسطين المحتلة. لم يكن ذلك سهلًا، فالازدحام شديد، والطريق طويلة وصعبة، تمامًا مثل ذكريات ما قبل اللجوء التي تكرج إلى الأذهان، حافرة جسر العودة.
...
صعوبة الوصول إلى "مارون الراس"، القريبة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، قابلها شوق وفرح يُنسي تلك الصعوبات. فصارت ذكريات الأجداد والآباء تكرج إلى أذهانهم، فاستعادوا السنين الخوالي، وبلادًا كانت تنام على كتف الجبل، ينتقل هواؤها لا يخشى الاعتقال من فلسطين إلى لبنان إلى الشام وتطوان.. فهم الآن على مقربة من الحدود مع فلسطين المحتلة بعدما اخترقوا قرية "مارون الراس"، إحدى القرى اللبنانية من قرى قضاء بنت جبيل، وتنبع أهميتها كونها تقع على تلال مرتفعة تطل على مناطق في فلسطين المحتلة. وتبعد نحو كيلومترين من الحدود اللبنانية الفلسطينية.
..عندما وقف الثلاثة على رأس جبل مقابل حدود فلسطين المحتلة، في المكان الذي أصبح اسمه لاحقًا "حديقة إيران"، شاهدوا فلسطين فاقتربوا منها حد التماهي بها. كان المشهد صادماً، والموقف لا يمكن وصفه، لم يتمالك "سامر" نفسه فبدأ البكاء، ذرفت عيناه دموع الشوق اللاهبة لاحتضان أرض الوطن، فعندما رآها ازداد شوقه لها، والتهبت أضلعه، واستعرت النار في قلبه استعاراً.. الأرض أمامه.. وأشجار الكرم، وحبل الغسيل، ومناديل "فاطمة"، وهواء "الجليل"، فمن يمنعه من العبور إلى أرضه التي لا يفصله عنها سوى أمتار قليلة، وسياج وجنود وكلاب عاوية، فأدرك يقينًا أن كلمات الشاعر "محمود درويش" ستتحقّق:
"خديجة لا تُغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم من حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل"..
...
لم تستطع "أم خليل" إكمال مسيرها، فجلست تستريح من عناء مسير صعب بين الصخور، لكن نجلها ورفيقه استمرّا معًا في الطريق الطويل الذي تتخلله منعطفات حادة وصخور كبيرة تُصعّب التّحرّك بينها، لكنها تحرك في الوقت نفسه لدى "ثائر" شيئًا ما لم يدر ما هو ولماذا يتحرك الآن؟! ولماذا يشعر بأنه يحمل جبلاً على صدره ويُطبق على أنفاسه.. هل هو التعب؟ أم الخوف؟ كل ما يدركه الآن أنه لا يعرف ما هو؟!!
..بعد عناء طويل وصل "ثائر" و "سامر" إلى أقرب منطقة من السياج الحدودي، ولا يبعد عنهما السياج إلا نحو عشرين مترًا، فهما الآن وجهًا إلى وجه مع جنود الاحتلال.. بدبّاباتهم، وسلاحهم، وكلابهم، ودشمهم التي يتحصّنون بها، والسياج الذي يفصلهما عن أرضهما المحتلة!!
جلس "ثائر" على حافة صخرة متعبًا ومرهقًا، أحسّ بشيء ما يسري بأوصاله، ويحوم حوله، نظر إلى صديقه، الذي لم ينتبه إلى وجوده:
"أتعبني كثيراً، مرّة أعتقد أنه يمتلك قوة يستطيع من خلالها تفتيت الصخر وقلع الجبال من مكانها، ويمتلك معجزات، رغم أن عهدها قد ولّى، وأراه أخرى ذابلاً كزهرة أعطت كل رحيقها وماتت"...
...غافل "سامر" صديقه وركض مسرعًا، ليخترق السياج، قبل أن تقوم "خديجة" بإغلاق الباب، أو أن تدخل في الغياب. أراد أن يطرد المحتلين من هواء "الجليل"، وكل فلسطين.
عندما تخطى السياج الفاصل، بدأ يرشق الجنود الإسرائيليين الموجودين بالحجارة ويلوّح بالعلمٍ الفلسطيني. وكلما ألقى حجرًا كان قلب "ثائر" يقفز ولا يعود إلى مكانه. تخطّى "سامر" السياج، ووصل إلى الأرض المحتلة بعدما تملّكه هدف الوصول إلى هناك. عندما أطلق الجنود نيران أسلحتهم باتجاهه ظن "ثائر" أن صديقه قد أصيب، لكنه عندما رآه يتحرك وهو يرفع العلم الفلسطيني، اجتاحته رغبة عارمة أن يفعل مثله. فهو كان في الجهة المقابلة من الحدود ينتظر مصير صاحبه، لكنه لم يستطع أن يفعل مثله!! كان مع كل رصاصة يطلقها الجنود يظن أنها قد أصابت صديقه، فيزداد خوفه عليه، فقد أصبح "سامر" الضمير الجمعي الذي تحرك واخترق ووصل؛ بينما هو قابع يعُدّ الرصاصات والحجارة منتظرًا ما سيؤول إليه مصير صديقه!!
.. تزايدت كثافة نيران الجنود، وتقدّمت دبابة يسير قربها جيب "هامر"، وبعد لحظات يتوقف إطلاق النار، ولم يعد يسمع "ثائر" ووالدته التي وصلت بصعوبة بالغة إلى المكان إلا صوت الريح، وصراخ الجنود المذعورين الذين اختبؤوا خلف آلياتهم العسكرية!!
..اقترب "ثائر" من السياج، لكن الجنود المختبئين، لم يطلقوا النار هذه المرة، رغم أنهم كانوا على بعد أمتار يختبؤون.. وعندما وصل وجد صديق عمره ممدّدًا، وقد أصيب برصاصات اخترقت رأسه وجسده الذي أخرج كل ما فيه من دماء فروّى بها الأرض، مثلما رواها قبله الشهداء..
احتضن "ثائر" جسد صديقه وهو يُقبّله، وخاطبه:
كنت مثل النهار تعشق الشمس، فلا تغادرنا على عجَل، وقصُّ رؤياك على عرب وعجم والقف بدمك إفكهم الذي سيزول.. لم تحدثني عن النهار لكنني رأيته يبزع من كفيك، ولم تحدثني عن نار الغضب، لكنني رأيتها في دمك الذي رسم خارطة الوطن من أقصاه إلى أقصاه... هل تتركني في وُحشة المكان لا أرى إلا نورك، وتجيئنا محمولًا على الأكف وتزغرد أمك، وأمي، ونسوة المخيم ويُردّدن:
"جابوا الشهيد.. جابوه، جابوا العريس.. جابوه، بعلم الثورة.. لفوه، يا فرحة إمه وأبوه"..
...
وبصعوبة بالغة حمل "ثائر" جسد صديقه الذي لا يزال يقبض بيده على الحجر.. ونظر باتجاه الشمس التي بدأت بالتواري خجلًا، فأيقن عندها أنّها ستظلّ مشرقة في كل القلوب، التي أسرجت خيلها باتجاه الغضب الساطع.. والمستحيل!