محمد الحسيني
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 القرار رقم 181 الذي قضى بتقسيم فلسطين المحتلة.. رفض زعماء العرب، ممّن كانوا ذوي دول مستقلّة، هذا القرار لأنه منح أكثرية أرض فلسطين لليهود الذين كانوا يمثّلون آنذاك 33 % من مجموع السكان، ويشغلون ما نسبته 7% فقط من الأرض، فيما كان الفلسطينيون يمثّلون ما نسبته 67 %؛ وعلى الرغم من ذلك رفض الصهاينة القرار واعتبر كل من مناحيم بيغن واسحق شامير التقسيم غير شرعي وباطل، لأن "كل أرض الميعاد (التي تشمل كامل فلسطين تحت الإنتداب وشرق الأردن) ملك لليهود وستبقى كذلك إلى الأبد"، وفي هذا الكلام ترجمة فعلية لما كان أعلنه دايفيد بن غوريون في حزيران / يونيو 1938 خلال اجتماع للوكالة اليهودية، بأن المطلوب ليس الشراكة مع الفلسطينيين بل إقامة وطن وتأسيس دولة على كامل أرض فلسطين.
هزيمة الـ 1948
قضى القرار 181 بإنهاء الإنتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة هي: دولة ذات هوية عربية بمساحة (11,000 كـم2) ما يمثّل 42.3 % من مساحة فلسطين، ودولة ذات هوية يهودية بمساحة (15,000 كـم2) ما يمثّل 57.7% من الأرض، وتبقى مدينتا القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية.. اجتمعت مجموعة الدول العربية، وأصدرت مذكّرة شديدة اللهجة ضد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وأعلنت عن إقامة معسكرات تدريب للمتطوّعين من الفلسطينيين في قطنة قرب دمشق، وتكوين جيش إنقاذ عربي بإمرة ضابط (تحوم حوله الشبهات) وهو فوزي القاوقجي.. اعترضت لندن في رسالة، واعتبرت أن "تسليح الفلسطينيين وتدريبهم هو عمل غير ودّي"، وسرعان ما عاودت مجموعة العرب الاجتماع لتردّ على الموقف البريطاني، فأخذت قراراً بإغلاق معسكر "قطنة" ووقف التدريب وتسريح المتطوّعين وسحب أسلحة المعسكر، والاستعاضة عن ذلك بتجهيز "جيش الإنقاذ" وتحديد عدد أفراده بـ 7700 جندي وإمداده ببعض الأسلحة، ووقف تنفيذ مخططات التمويل التي كانت قررتها لدعم الفلسطينيين في الداخل.
صفقة العصر بتمويل عربي
كان الردّ العربي الانهزامي كفيلاً بأن يطلق يد الصهاينة بدعم بريطاني مباشر لينطلقوا إلى الخطوة التالية، ولم يطل الأمر كثيراً حتى أعلنوا "دولتهم" في 14 مايو / أيار 1948 ليردّ عليهم العرب في اليوم التالي بقرار انهزامي آخر قضى بتبنّي مصطلح "يوم النكبة" الذي أطلقه المؤرخ قسطنطين زريق، ليصبح 15 مايو / أيار مناسبة سنويّة للبكاء على التاريخ وتجديد ذكر الكارثة وإبداء الحسرة، واستعادة مشاهد قتل وجرح الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني، وتدمير مئات القرى وتشريد أكثر من 800 ألف فلسطيني داخل الوطن وإلى خارجه.. إنه تاريخ إذلال العرب لأنفسهم، وهم الذين أجهضوا كل مقاومة انطلقت في فلسطين المحتلة ضد الاحتلال الإسرائيلي بدءاً من إجهاض مشروع ما يسمّى "جيش الإنقاذ" والتخلّي عن فكرة التحرير، وضرب المقاومة اليت قادها ثوّار أبطال أمثال الضابط السوري إحسان كمّ ألماظ والشيخ عز الدين القسّام والسيد عبد القادر الحسيني، والإمعان في الخيانة والتآمر المباشر على حركات المقاومة، وصولاً إلى تحجيم قضية فلسطين وتحويلها من قضية صراع وجود إلى نزاع حدود، وتقزيمها بقرارات واتفاقات تنازلية متلاحقة، وتقسيمها بالتدريج وبيعها بالجملة والمفرّق، انتهاءاً بصفقة العصر التي تراهن واشنطن على السعودية وعرب الخليج لدعمها وتوفير مقوّمات استمرارها وعناصر تنفيذها.
مسيرات العودة مستمرة
بعد 71 عاماً على "النكبة" أصبحت فلسطين وقضيتها في قعر اهتمامات الأنظمة العربية المنقسم بعضها على بعض، وباتت مجرد لازمة أدبية تتكرّر في بيانات المؤتمرات العربية المتشرذمة، فلا جامعة عربية موحّدة ولا مجالس خليجية أو إفريقية متآلفة، بل كيانات متضادّة وأطراف متعادية وسلطة في الداخل تبحث عن الوسائل المختلفة لضرب المقاومة وتدرس إمكانات الاستسلام بدل خيارات الرفض، وأصبحت فلسطين عبارة عن مقاطعتين: الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين سلطتها من جهة وحركات مقاومتها من جهة ثانية هوّة كبيرة لم تعد ترتق فتقها محاولات الجمع والتوحيد، ويبقى الشعب الفلسطيني محور القضية، وهو الذي لا يزال يحيي كل أسبوع جمعة الرفض لأكثر من ستين أسبوعاً على التوالي بلا ملل ولا كلل، و"العودة" عنوان الحراك في مسيرات لا تتوقف على الرغم من القتل والجرح والأسر.
زمام المبادرة فلسطينية
بالأمس القريب اعترفت واشنطن بالقدس المحتلة عاصمة لـ"إسرائيل" وافتتحت سفارة لها فيها، وتضيّق الحصار المالي والاقتصادي على الفلسطينيين، فيما تمعن حكومة الاحتلال في ارتكاب الجرائم والاعتداءات وعمليات الاعتقال اليومية، والهدف هو تركيع الفلسطينيين وإجبارهم على الرضوخ والقبول بصفقة العصر مع ما فيها من بيع للجغرافيا وتحريف للتاريخ، والدفع باتجاه توطين اللاجئين الفسلطينيي حيث هم في أرض الشتات.. هي النكبة مستمرة بأوجهها المختلفة وبوتيرة أشدّ وأصعب، ولكن الشعب الفلسطيني الذي لم يذق طعم الراحة والأمام منذ أمثر من قرن من الزمن، لا يزال يقبض على الحجر والمقلاع، ويبتدع في كل يوم وسيلة جديدة من وسائل المقاومة، وهو اليوم قد عاد للإمساك بزمام المبادرة، وليس في هذا الكلام أي مبالغة، فلا يخلُ يوم في فلسطين المحتلة من عمل يستهدف جنود الاحتلال ودورياته ومواقعه، بالطعن والدهس أو بالمواجهة العسكرية والأسر، حتى تحوّلت المدن والمخيمات الفلسطينية إلى مقالع بطولة تخرّج مقاومين مهاجمين واستشهاديين يستدرجون العدو إلى حالة استنزاف مستمرة، ولا سيما في قطاع غزة الذي تحوّل اليوم إلى جبهة مفتوحة لا تهدأ، فلا يزال العدو يتذكر حرب الـ 53 يوماً على غزة في تموز / يوليو 2014 ويستقي منها العبر، وهي التي اعتبرت الحرب الأطول والأعنف، واضطر العدو بنتيجتها إلى الإذعان لشروط المقاومة ووقف العدوان.
ما بعد بئر السبع وتل أبيب
حوّلت المقاومة الفلسطينية عدوان "الجرف الصامد" الذي شنّه العدو على غزة إلى "عصف مأكول" أعلنته حركة حماس، وإلى "بنيان مرصوص" أعلنته حركة الجهاد الإسلامي، وأطلقت المقاومة نحو خمسة آلاف صاروخ وقذيفة هاون من مختلف العيارات، وفشلت القبة الحديدية في حماية المواقع والمستوطنات المستهدفة ولم تستطع اعتراض أكثر من 735 قذيفة. ولم يتحقّق هدف العدو في منع إطلاق الصواريخ من غزة إلا بعد إعلان وقف العدوان وإطلاق تعهّدات إسرائيلية برفع الحصار عن القطاع وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، ولم تفلح عمليات التدمير الوحشية في منع اطلاق الصواريخ، وهو ما شكّل معضلة جوهرية لدى العدو، بحسب أغلب المحللين السياسيين والعسكريين الصهاينة، فلم تعد "إسرائيل" الطرف الذي يتحكّم بمفاصل الميدان، وهو ما ظهر جليّاً في تصدي المقاومة الفلسطينية للعدوان الإسرائيلي الأخير مطلع الشهر الجاري على قطاع غزة، حيث لم يستطع العدو تحمّل استمرار إطلاق صواريخ المقاومة لأكثر من يومين، حتى تحركت الوساطات الدولية والعربية لوقف النار، فالعدو اليوم لم يعد يواجه حركة حماس لوحدها، فقد انضمت حركة الجهاد إليها في جهد حربي مشترك ومنسّق "جعل إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً"، بحيث تم إطلاق 700 صاروخ خلال يومين، ليجعل من موقعة العام 2014 بروفا ميدانية من شأنها تغيير قواعد اللعبة، حيث أدخلت المقاومة في الميدان صواريخ جديدة أبرزها الكورنيت الذي تخشاه الدبابات، فضلاً عن الطائرات المسيّرة التي تركت تأثيرها في تزخيم المعركة داخل ساحة العدو، التي وسّعت المقاومة دائرة الاستهداف فيها إلى بئر السبع وتل أبيب وما بعد بعدهما.
المعركة الكبرى آتية
قد يكون العدو الإسرائيلي نجح في التفرقة بين أنظمة العرب المهزومة أصلاً في ثقافتها وتركيبتها وتبعيتها التاريخية للغرب، ولكنه في المقابل ساهم في توحيد البندقية الفلسطينية واستنهاض الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يؤمن بحتمية النصر، وتجربة التحرير في لبنان ماثلة أمامه كنموذج فعلي تتردّد مفاعيله في فلسطين كما في سوريا واليمن، ومن هنا نفهم تصريح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الذي أكّد أنه "لو استمرّت المعركة الأخيرة في غزة كان سيفصلنا عن قصف تل أبيب وكل المدن الإسرائيلية ساعات قليلة، وما حصل في غزة مناورة بالذخيرة الحية استعداداً للمعركة الكبرى التي نراها آتية لا محالة".