الإعلام الحربي ـ خاص
لا يمكن أن يمر يوم الثاني والعشرين من شهر كانون ثاني/ يناير على الاحتلال الصهيوني دون أن ترجع الذاكرة به إلى عام 1995 التي تركت في جسده وذاكرته ندبة لا تمحى مهما مر عليها من أعوام، حين خرج الاستشهاديان صلاح شاكر وأنور سكر من حرم قطاع غزة متوجهين إلى مدينة "نتانيا" في الأراضي المحتلة منذ عام 1948، حاملين معهم دروسا من فنون المقاومة والفداء لتكون تلك المدينة ميدانا لتطبيق ما تعلموه بطريقة عملية مثالية وما هي إلا دقائق حتى تصدر الخبر وسائل الإعلام الصهيونية، وكانت صور القتلى والجرحى من جنود الاحتلال تملأ الشاشات.
وباعتراف الاحتلال الصهيوني، كانت تلك العملية التي أطلق عليها اسم عملية "بيت ليد" درسا قاسيا تلقاه جيش الاحتلال، سواء في طريقة التنفيذ والقفز عن كل إجراءات الاحتلال الأمنية والوصول لنقطة متقدمة داخل صفوف جيش الاحتلال أو في عدد القتلى والجرحى والذين وصلوا إلى حوالي المئة، فكان ذلك اليوم يوم آخر يضاف إلى الأيام السوداء في تاريخ الاحتلال الصهيوني.
وكانت عملية بيت ليد أول عملية استشهادية فلسطينية مزدوجة تنفذها حركة الجهاد الإسلامي، فقد ترجل الثنائي المزدوج، "أنور سكر" و "صلاح شاكر"، بملابس جيش الاحتلال أمام مفترق بيت ليد قرب مدينة أم خالد المحتلة، والتي يطلق عليها الاحتلال باسم "نتانيا"، ليتقدم أنور سكر ويفجر نفسه وسط تجمع الجنود المصطفين أمام مقصف لبيع الشطائر، وما هي إلا دقائق حتى فاجئ الاستشهادي صلاح شاكر الجنود بانفجار ثان، لتتوالي بعد ذلك أرقام القتلى والجرحى، فيسقط 20 قتيلا وما يقارب 80 جريحا، وأعلن بعد ذلك عن مقتل أربعة آخرين متأثرين بجراحهم، آخرهم مات بعد عام من العملية، ليصبح العدد النهائي 24 قتيلاً من ضباط وجنود جيش الاحتلال الصهيوني.
شكلت عملية بيت ليد كابوسا يقض مضاجع قادة الاحتلال وجيشه حتى أن الكثير من جنود الاحتلال امتنعوا عن استخدام وسائل النقل العامة انطلاقا من مفترق بيت ليد ولم يعودوا يقفون فيه مطلقا.
وخاطب رئيس حكومة الاحتلال في ذلك الحين "إسحاق رابين" الصهاينة بخطاب مهزوم قائلا: "ماذا تريدونني أن أفعل؟ أعاقبهم بالموت؟ إنهم يريدونه!، يأتون هنا من أجله"، وبعدها بأيام أصدر رابين قراره بإعداد خط محكمة لاغتيال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي "فتحي الشقاقي" ردا على العملية.
هذه الكلمات التي أطلقها "رابين" بقيت لعنة تطارده حتى بعد مقتله، حيث لا تكاد تذكر تلك العملية حتى يتذكر الصهاينة كلمات رابين التي عبر فيها عن عجز "الجيش الذي لا يهزم" عن مواجهة استراتيجية المقاومة الوليدة.
كواليس العملية
وضع الشهيد القائد محمود الزطمة أحد أبرز قادة الجناح العسكري للجهاد الإسلامي مخططات مفترق بيت ليد أو ما يعرف باسم مفترق هشارون لدى الاحتلال أمام القيادة العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة وشرح لأعضاء الجناح طبيعة هذا المفترق وأهميته لجنود الاحتلال، وتفاصيل العملية المقترحة ودور مجموعات الضفة الغربية المحتلة في الدعم والإسناد وبعد دراسة مستفيضة لمشروع العملية، باركت القيادة العسكرية الخطة وأعطت الضوء الأخضر للتنفيذ.
ويعتبر مفترق بيت ليد من بين المفترقات الأكثر ازدحاماً في فلسطين المحتلة، وطبقاً لتقديرات دائرة المواصلات الصهيونية العامة، فإن ما يقرب من ثمانين ألف سيارة وحافلة تعبر هذا المفترق يومياً.
وتتوزع من الموقع الاستراتيجي حركة المرور بين مناطق "غوش دان" والخضيرة وحيفا في شارع رقم (4) وبين مدن ناتانيا وطولكرم ونابلس في شارع رقم (57). وقد جعل الموقع المركزي للمفترق بين مناطق غوش دان (منطقة تل أبيب الكبرى) وشمال فلسطين المحتلة منه نقطة انطلاق ونقل رئيسة لجنود الاحتلال في طريقهم إلى معسكراتهم وثكناتهم في الضفة الغربية المحتلة، ومكاناً يغص بالجنود الذين يسافرون بالحافلات إلى الخضيرة وحيفا وطبريا وكريات شمونة أو باتجاه تل أبيب والقدس، وإلى جانب ذلك، يوجد بمحاذاة المفترق سجن كفاريونا.
ووفق الوقائع التي نشرت في وسائل الإعلام، واعترافات الأسير المجاهد عبد الحليم البلبيسي (29 عاماً) من الجهاد الإسلامي التي انتزعها الشاباك منه بالقوة وعن طريق استخدام أسلوب الهز العنيف بعد اعتقاله في 6 كانون أول (ديسمبر) 1995م، فإننا نستطيع رسم المخطط الذي وضعت عليه العملية على النحو التالي:
1- تجهيز ثلاثة حقائب، شبيهة بتلك التي يحملها جنود الاحتلال، بنحو عشرة كيلو جرامات من المتفجرات شديدة الانفجار لكل حقيبة. 2- يرشح قادة القوى الإسلامية في غزة ثلاثة من الاستشهاديين. 3- تقوم مجموعات الإسناد بنقل الاستشهاديين الثلاثة من قطاع غزة إلى مدينة القدس. 4- تتولى مجموعات الإسناد في القدس استقبال الاستشهاديين كل على حدة، وتعمل على توفير ملابس عسكرية لهم ثم تقوم بنقلهم إلى منطقة شمال الضفة الغربية. 5- مجموعات الرصد والاستطلاع في منطقة شمال الضفة الغربية مسئولة عن رصد المفترق والحراسات الصهيونيةوأي تغيرات تطرأ حولها. 6- تقوم مجموعات الإسناد في الشمال بنقل الاستشهاديين الثلاثة إلى المفترق في يوم الأحد الموافق 22 كانون الثاني (يناير) ،1995 حيث تصل في أيام الآحاد من كل أسبوع حافلات لنقل أو إنزال الجنود الذين يخرجون في إجازات من الخدمة العسكرية أو يعودون من إجازاتهم للالتحاق بوحداتهم. 7- يقوم الاستشهادي الأول بتفجير عبواته قرب الاستراحة والكافتيريا التي يرتادها الجنود، وبعد أن يخرج الجنود من المحطة المحمية جيدا هربا، يتسلل الاستشهادي الثاني بينهم ويحيط بأكبر عدد ممكن منهم ثم يفجر حقيبته المفخخة، وأما الثالث، فإنه ينتظر قدوم طواقم الإنقاذ ووحدات التعزيز والحراسة ليفجر عبواته الناسفة وسط الحشود الكثيفة.
ترشح للعملية ثلاثة استشهاديين من قطاع غزة، نجح منهم اثنان في الوصول للهدف وتنفيذ الدور المطلوب منه بينما تأخرت مجموعات الإسناد في إيصال المجاهد الثالث إلى المفترق في الوقت المحدد مما جعل أمر تنفيذ ما خرج لأجله صعب التحقيق، وأما الاستشهاديان اللذان وصلا مفترق بيت ليد في الوقت المحدد فكان أحدهما صلاح عبد الحميد شاكر محمد (27 عاماً) وهو من سكان مخيم يبنا بمدينة رفح، واعتقل خلال الانتفاضة لمدة (18) يوماً وأصيب ست مرات.
وكان صلاح قد انضم في بداية دراسته الثانوية إلى حركة الجهاد الإسلامي، إذ أن أخوته الكبار ينتمون إليها، والثاني الذي نجح في الوصول للهدف، هو أنور محمد عطية سكر (25 عاماً) الذي يسكن قرب مسجد الشهداء بحي الشجاعية في مدينة غزة، واعتقل أنور مرة واحدة خلال الانتفاضة وقضى أحد عشر شهراً في سجون الاحتلال، وعند قدوم السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، اعتقل مرتين خلال الحملات التي نفذتها شرطة الحكم الذاتي ضد المجاهدين.
وبعد أن تم تدريب الاستشهاديين الثلاثة وتوجيههم، كلف الأسير عبد الحليم البلبيسي بالتنسيق مع القائد محمود الخواجا والمجاهدين نضال البرعي وأيمن الرزاينة وعلاء الأعرج، وهم من قادة سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي لترتيب عملية مغادرتهم لقطاع غزة.
وفي نفس الوقت، أجرى الشهيد المهندس محمود الزطمة اتصالاته مع المجموعات التي أقامها في القدس ونابلس وطولكرم ورتب معها كافة التفاصيل المتعلقة بنجاح الهجوم وتعليمات الانسحاب من المكان بعد إيصال الاستشهاديين، وسارت الأمور كما رتب لها بالنسبة للاستشهاديين صلاح وأنور اللذين ارتديا زي جنود الاحتلال ووقفا في صباح يوم الأحد الموافق 22 كانون الثاني (يناير) 1995 في محطة الحافلات العسكرية بانتظار تجمع مئات الجنود ليفجرا نفسيهما بينهم.
شكلت العملية البطولية للشهيدين صلاح وأنور سابقة متقدمة في تاريخ الجهاد على أرض فلسطين، فهي العملية الأولى من نوعها التي تستهدف هذا العدد من جنود الاحتلال وتحقق هذا النجاح على صعيد التخطيط والتنفيذ.
تعليقات صهيونية
أجرى "إسحاق رابين" جولة في مكان العملية برفقة قائد الجبهة الداخلية في جيش الاحتلال ورئيسي الشاباك والاستخبارات العسكرية، وعقد رابين مؤتمراً صحافياً قرب المفترق وسط حراسة مشددة شاركت فيها الطائرات المروحية التي حلقت فوق المنطقة ساهمت في عمليات التفتيش وتوجيه الأطقم الأرضية لإقامة الحواجز العسكرية على طول الشارع الذي يصل بين مدينة طولكرم ومدينة نتانيا، وفيما بدت آثار الإرهاق والإحباط بادية وواضحة على وجهه، لم يستطع اسحق رابين إخفاء حزنه وتأثره، فبدأ خطابه قائلا: "إنه يوم رهيب وفظيع وأليم بالنسبة لكل شعب الكيان.. إن الحل الأمثل والجذري على المدى المتوسط والبعيد هو الفصل بين الصهاينة والفلسطينيين بما لا يتيح للفلسطينيين من الضفة والقطاع الدخول إلى مناطق السيادة الصهيونية، وحتى هذا الفصل قد لا يمنع شخصاً مستعدا للموت من التسلل إلى داخل الكيان، إذ لا سلاح رادع في مواجهة استشهادي كهذا".
وأضاف رابين الذي كانت عيناه تبحثان طيلة الوقت في السقف عن الكلمات المناسبة مخاطباً المهندس دون أن يذكره بالاسم: "سننتصر عليكم وسنواصل السلام وضربكم ومطاردتكم في آن واحد، وأية حدود لن توقفنا وسنقضي عليكم".
وأما رؤساء الأجهزة الأمنية والقادة العسكريون، فقد أجمعوا على ذكاء المهندس ومقدرته في التخطيط، وبالمقابل فشل أجهزتهم في وضع الإجراءات المناسبة للحيلولة دون نجاح ما يخطط له، فقد وصف الجنرال "اساف حيفيتس"، المفتش العام للشرطة العملية بقوله: "عملية التفجير تعتبر شديدة الإحكام ودقيقة، ووصول منفذي العملية إلى العمق الصهيوني هو فشل أمني يصعب تبريره".
وذهب الجنرال "يعقوب بيري"، رئيس جهاز الشاباك إلى أبعد من ذلك حين أعلن استقالته من منصبه بعد يومين من العملية حيث قبلها رئيس الوزراء بصفته مشرفاً على الجهاز، وعزت وسائل الإعلام الصهيونية سبب الاستقالة وموافقة رابين عليها إلى إخفاق الجنرال بيري في العثور على المهندس وإحباط العمليات الاستشهادية التي يجهزها ويشرف على تنفيذها.
وضمن السياق نفسه، أبرز المحللون العسكريون جرأة المخططين للعملية بتركيزهم على العسكريين، وقال "أمير اورن" في برنامج "دافار" تحت عنوان "هزيمة الجيش الصهيوني في بيت ليد" والذي يرى بأن "الهجوم يعد ضربة لجوهر قوة الدولة وأسطورة العزة الصهيونية ، إذ قال: "هذه الأجواء الشعبية الحزينة، وما يرافقها من تخبطات سياسية، يجب ألا تطمس الحقيقة الخطيرة، وهي أن الجيش الصهيوني قد مني بهزيمة ذريعة، مقدارها الكمي انتزاع فصيلتين من حجم الجيش، ومقدارها النوعي خدش آخر لكلام أفضل جيش في العالم، فقد استطاع المنفذون أن يقوموا بعملية حرب عصابات واضحة، ضد جيش كبير مترهل وهش، وهذه ليست مجزرة، لأن الجنود سقطوا وهم موجودون في الحراسة، ولكن من ذا الذي يحرس الجنود؟ لقد أصبح كل جندي هدفا للهجوم عليه أو اختطافه.. لو أتقنت القيادة والشرطة العسكرية مهمتها، لشعر كل عسكري، من الجندي حتى الميجر جنرال في مفرق بيت ليد، أنه نحشون فاكسمان القادم".
وبالرغم من مرور سنوات طويلة على وقوع العملية، إلا أن العدو الصهيوني لا زال يرفض تسليم جثماني الشهيدين، ضارباً عرض الحائط بكل المواثيق والأعراف الدولية في هذا السياق، وبحسب تقرير أعدته منظمة "بتسليم " الصهيونية لحقوق الإنسان مؤخرا أن جثماني الشهيدين أنور سكر وصلاح شاكر ضمن 24 جثة يواصل العدو الصهيوني احتجازها ويرفض تسليمها لذويهم.