آويني..الشاب
..والإعلامي المخضرم
"لا تتخيّل أنّني لست على اطّلاع على حياة ذوي الأفكار المتنوّرة، لا، فأنا أتكلّم معك بعد طيّ طريق طويل بهذا المجال. لقد درستُ لسنوات في إحدى كليّات الفن. كنتُ أذهب إلى الأمسيات الشعرية، ومعارض الرسم، وأسمع الموسيقى الكلاسيكية. قضيتُ ساعات طويلة في نقاشات تافهة حول أشياء لم أكن أعرفها. عشتُ لسنوات متظاهرًا بالمعرفة.
كانت لي سكسوكة وشاربٌ طويل، وكنت أحمل كتاب "الإنسان ذو البعد الواحد" لهربرت ماركوزه" دون أن أقرأه حينها، وذلك فقط كي يرى غلافه الآخرون، فيخاطبون أنفسهم: يا له من مثقّف ويا لهذا الكتاب الذي يقرؤه."
هكذا يعرف السيد مرتضى عن نفسه. فنّان غارق في المظاهر، لم يكترث لكل ما يحدث من حوله خلال سنوات الثورة معتبِراً أن الصراع سياسي على السلطة، وهذا شأن لم يكن يعنيه بتاتًا، حتى ظهرت له صورة الخميني كاملة بعد انتصار الثورة بفترة فقال: "لقد جذبني عشق الخميني".
”منذ بدء الثورة، ألقيتُ بجميع كتاباتي، وخواطري الفلسفية، والقصص القصيرة، والأشعار و...، في أكياس وأحرقتُها، وقرّرتُ ألّا أكتب بعدها ما يُدعى "حديث الأنا"، ولم أتحدّث بعدها عن نفسي أبدًا."
عَشق الإمام، فخرج من بيئة الفنون والأدب الغارقة في المحرّمات والمبادئ الفاسدة. حصل التحوّل الكبير في حياته؛ أصبح المعلّم الأوّل في الثورة في الفن والإعلام والصحافة، كتب عشرات المقالات، وجرّب الجامعة، وعمل في التلفزيون، وأنتج أكثر من 100 وثائقيّ كتب نصوصها وصَوّرها وأخرجها وسجّل صوته فيها، أغلبها في سلسلة "روايت فتح" حتى استشهد والكاميرا في يده، في "فَكِّه" في حقل ألغام عندما كان يريد أن يصنع فيلماً عن شهداء مظلومين استشهدوا في خندق في تلك المنطقة، وخلال عمله نال الشهادة..
هذا السّيد الشاب خرّيج كلّية الفنون، مختصاً بالهندسة المعمارية، شرع في إعادة النظر في كلّ شيء. حرق كلّ أعماله السابقة، وبدأ من الصفر. طالع مدرسة الإمام الخميني التي آمن بها بعد الانتصار، وبدأ تدوين أفكاره الجديدة، ولم يكتفِ بذلك، بل بدأ بإنتاج الأعمال المتطابقة مع الفكر الجديد، طرَحها بكل صراحة فسبّبت له الكثير من الانتقادات والمعاناة. فأفكاره خالفت كلّ المبادئ الحاكمة في عالم الفن والسينما. لقد كان جريئًا جدًا في طرح مسائل يخاف بعضهم – حتّى اليوم - أن يتبنّاها أو يطرح أمثالها في هذا البازار المسيطر في كلّ أنحاء العالم.
"التغرب هو واقع تاريخي شمل جميع المجتمعات غير الغربية بشكل واسع ومن جملتها إيران. ضعفنا نحن هو الذي مهّد الأرضية للغرب وليس قدرة الغرب. الفن الحديث، كما قلتُ لكم، أساساً.. هو رواية البشر الجُدد للعالم، في الواقع يجب علينا أن نغيّر جوهر الفن الحديث، وليس قالبه من أجل تحقيق الاستقلال الثقافي. يجب أن نعود إلى أنفسنا، يعني الالتفات إلى أنفسنا، نحن حقيقةً في الثورة الإسلامية عُدنا إلى أنفسنا. أنا أعتقد بأن مرحلة التغرّب قد انقضت ومع انتصار الثورة الإسلامية دخلنا في عصر جديد حيث تسلُّط وسيطرة الغرب على العالم تضمحلّ تدريجياً. في الحقيقة نحن عبرْنا نقطة التحوّل تلك التي يجب أن نعبرها في التاريخ ومن الآن فصاعداً نحن نمضي باتّجاه انحلال الحضارة الغربية".
يجلس آويني بكل هدوء ويتحدّث عن نهاية الغرب بعد سنوات قليلة على انتصار الثورة، بكل جدّية واطمئنان. كتب عدداً من المقالات في نقد الغرب، وكتب عن الموت وفهْم الانسان والحياة.
توجّه إلى المناطق المحرومة لمساعدة الناس في القرى، وهناك طلبوا منه التصوير بعد أن عرفوا أنه صحفي فعاد إلى طهران وأحضر الكاميرا ومعدّاته وعاد إلى القرى يوثّق حياة المستضعَفين. ثم جاءت الحرب فانتقل إلى جانب المقاتِلين مع معدّات التصوير. سجّل أعماله بدون ذِكر اسمه فبقيَ مجهولاً للجمهور وللقيادة لسنوات.
يروي الحاج مهدي همايونفر (وكان حينها مسؤول الصوت في الفريق خلال اللقاء مع الإمام الخامنئي حفظه الله): "غلب على الحديث موضوع النّصوص، وسألَنا مرّات عدّة عن كاتِبها، فحاولنا التّهرب بسبب توصية آويني لنا، لكن اضطررنا أخيرًا أن نقول له إنّه السّيد مرتضى آويني الذي كان جالسًا إلى جانبي. فقال لنا القائد: هذه المتون تحفٌ أدبية، وأنا كنت أستمتع عند سماع ومشاهدة البرنامج (على التلفاز) لدرجة لا توصَف".
وفي أحد اللقاءات المنفردة مع القائد، تناول في الحديث روايت فتح فقال: "إني أفتخر بهؤلاء الشباب الكتّاب والفنانين الذين يبذلون الجهد في هذه المؤسّسة"، ثمّ تحدّث عن آويني وقال: "عندما يرى أحدنا السيّد آويني وسيماه ووجهه النورانيّيْن، يتعلّق به مباشرة".
إلا أنّ آويني بقي ساكتاً ومنطوياً على نفسه مصرّاً أن لا يلتفت له أحد.
سأله أحد الأصدقاء مرّةً، لماذا لا تنتج فيلماً عن عاشوراء؟ وهو الحديث الثابت في كل عاشوراء بين المتدينين والمحبين من أهل الفن. فذهب إلى بيته وبقي شهراً فيه، لم يخرج، وعاد بقصة عاشوراء بتسعة فصول وعدّة أسطر. لماذا؟ لأنه لم يستطع أن يكتب قصة شهادة سيد الشهداء. بقي الفصل العاشر ناقصاً، بل حتى أنه لم يستطع انتاج الفيلم. بعد شهادته جُمع متن الفيلم في كتيّب باسم "فتح الدم" ونُشر بالعربية باسم "قصة الفتح". وهذا مقطع من الكتاب:
أيّها العطاشى لكوثر الولاية! أقبِلوا، لقد وجدتُ نبعًا. واأسفاه! أخْلَيْتُم قلب القبلة، وتطوفون حول جدران حجرية؟ أقبِلوا، فباطن القبلة ها هنا، فلو لم تكن إرادة الله كذلك لكنتَ رأيتَ الكعبة آتية تطوف حول الإمام، ولكنتَ شهدتَ الحجر الأسود يُبايعه، أوليس هو الإنسان الكامل؟ وغاية كمال الدنيا؟ أيّتها الأمة الأُخرى! ما الذي جرى عليك؟ حتى متى الغوْص في محاق الغفلة والعمى الذي لا يعرف الشمس؟
كتب في وثائقيات الحرب عن المقاتلين والعمليات ومناطقها بأدبيات جديدة لم تتكرّر حتى اليوم بعد مرور أكثر من 25 عاماً. وكانت عباراته لها خصائص متعدّدة: الجمْع بين البُعد المادي والمعنوي للأحداث، وأيضًا بين مراحل التاريخ والزمن، ممزوجة بالأبعاد العقائدية والتربوية معاً:
"طالِب الحوزة الذي كنّا قد تعرّفنا عليه من قبل في حلقة "ليلة عاشورائية"، الآن نراه جالسًا في القاعة، في حوزة السليمانية في مشهد. تشرّفنا بزيارة هذا الأخ العزيز أيضًا في إحدى حوزات مشهد المقدسة. ربّما بالنسبة إلى الّذين يأبون التصديق، ليس هنالك تناسُبٌ بين الفقه والأصول من جهة والجبهة من جهة أخرى؛ ولكن بالنسبة إلينا نحن الذين نعتبر العلماء والفقهاء وَرَثةً للأنبياء، الفتح في جبهات النّزال يتأسّس في جلسات الفقه والأصول هذه. نحن نقاتل من أجل الإسلام، وشجرة الإسلام المتينة لها جذورٌ في أرض الفقه والأصول، وسقياها دماء العشّاق. ميثاق العلم ميثاق كربلائيّ؛ ومن يعقد هذا الميثاق مع الله، يدرس الفقه في الحوزة، والعشق في الجبهة، وقربةً إلى الله تعالى، يدخل متوضئًا لكِلا الدّرسَين، ويتعاطى مع كليْهما على أنّهما جبهتَا مبارزة مع الكفر والشّرك، ويعلم بأنّ هذا الطريق طريقٌ للشّهادة.
التعبويّ عاشقٌ لكربلاء، لا تنظر إلى كربلاء على أنّها مدينة من المدن، واسمٌ من الأسماء. كلّا، كربلاء هي حرم الحقّ، ولا أحدَ على طريق الحقيقة غير أنصار الحسين (عليه السلام). يا كربلاء، اقبلينا نحن أيضًا في رَكْب الكربلائيين، سنأتي لنقبّل ترابك، وعندها نرِد ديار القدس".
عندما عَشق الخميني عَشقه كلّه، فذهب إلى أساتذة الأخلاق وزاحمهم بركبتيه. توجّه إلى الجبهة إلى أقرب نقاط الالتحام وقاتل بالمشاهد التي صوّرها وأرشفت الحرب في أكثر من 100 وثائقي، بقيت المحتوى الحقيقي المؤثّر طوال عقود وما زالت. تصدّى لصناعة المعايير الإسلامية والثورية للفن والصحافة فكتب ودرّس وناظر وخطب وتلقّى الأذى المستمر في هذا المجال. طُرد وحوصر واتُّهم واحتُجِز وحَسَده المقرّبون وحاربه المُغرِضون لكنّه لم يتوقّف لحظةً حتى لحظة عُروجه في ميدان قتاله الذي خلّده وخلّده.
علاء قبيسي