جهاد حيدر
استطاعت المقاومة في قطاع غزة أن تضيِّق على العدو خياراته واربكت حساباته ووضعته بين ما يراه سيء وأسوأ بعدما فشل في اجتراح خيارات بديلة تحقق طموحاته وتلبي أولوياته.
قبل أي قراءة لتطور الاحداث مع قطاع غزة، ينبغي تثبيت حقيقة أن “إسرائيل” سبق أن احتلت القطاع ومعه الضفة الغربية وصحراء سيناء والجولان في ستة ايام خلال حرب العام 1967. في المقابل، تحوَّل القطاع الان بعد تبدل ماهية معادلات القوة مع "إسرائيل"، إلى خنجر في خاصرة الكيان الإسرائيلي. واستطاعت فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع المنبسط جغرافيا، والمحاصر، ويحتوي على أكبر كثافة سكانية في العالم، نحو 2 مليون نسمة، في مساحة لا تتجاوز نحو 380 كلم مربع، أن يفرض نفسه على جدول اعمال المؤسستين السياسية والامنية، وفي وعي الجمهور الإسرائيلي كتحد عصي على الانكسار.
لم تنجح سياسة فرض الحصار في تطويع المقاومة أو إحداث تحولات جذرية في البيئة الحاضنة للمقاومة في القطاع. بل أظهرت صمودا هائلا في مواجهة مختلف الضغوط الامنية والاقتصادية والحياتية. بالموازاة لم يستسلم القطاع، بمقاومته وشعبه، للوقائع التي فرضها العدو، وأطراف عربية، بل يواصل نضاله كجزء من الشعب الفلسطيني، من أجل رفع الحصار، وبمواجهة المخططات التي تستهدف القضية الفلسطينية. المؤكد أن المقاومة في قطاع غزة لا تريد حرباً وليس من مصلحتها ذلك، وانما مصممة على تحسين الواقع الحياتي في القطاع، وممارسة الضغوط المدروسة على الامن الإسرائيلي. ومستعدة لمواجهة أي حرب تشنها "إسرائيل" على القطاع.
في المقابل، يسعى الإسرائيلي إلى تجنب سيناريو تتدحرج فيه التطورات نحو حرب مع قطاع غزة، ويعود ذلك إلى ادراكه أن أي حرب ستنتهي إلى النقطة التي هي عليها الان، أو سيتورط الجيش في خيار بري واسع وهو ما سينطوي على أثمان كبيرة، في الجنود والعمق الإسرائيلي، فضلا عن عدم وجود أجوبة على أسئلة اليوم الذي يلي. وعلى خط مواز يتعارض هذا السيناريو مع أولوية القيادة الإسرائيلية التي ترى أن التهديد الاكبر في هذه المرحلة ينطلق من الساحة الشمالية، في ضوء تعاظم القدرات النوعية في سوريا ولبنان. وتحاول تجنب الانشغال بأي قضية على حساب مواجهة هذا التحدي... ومع ذلك، يرفض الإسرائيلي بالمطلق رفع الحصار عن القطاع. ويواجه النضال الشعبي الفلسطيني بالنيران، الذي استطاع أن يُطوِّر أساليبه ويربك الامن في مستوطنات غلاف غزة، وهو ما أحرج حكومة نتنياهو.
على هذه الخلفية، احتل القطاع صدارة اهتمام المؤسستين السياسية والأمنية، وفرض نفسه على جدول أعمالهما. وتترجم ذلك بتصعيد سياسي تهويلي، ساهم في بلورة سقفه، أكثر من عامل داخلي انتخابي واعتبار ميداني وموضوعي بدى حاضراً لدى قيادة العدو.
كان لافتاً، ومتوقعاً، أن المقاومة لم تخضع أو ترتدع بفعل التهديدات الإسرائيلية، وهو ما فاقم من الارباك الإسرائيلي وفي الوقت الذي دخل فيه الطرف المصري على الخط انطلق صاروخان ـ مجهولي المصدر ـ سقط أحدهما على مدينة بئر السبع والاخر في البحر مقابل غوش دان، في لحظة احتدام اشتباك الارادات. وأياً كان التقدير الإسرائيلي، أو معلوماته عن خلفيات الصاروخين فقد حضرت رسائلهم السياسية والامنية على طاولة القرار. وفهمت تل أبيب أن التهويل بالعدوان لم يطوِّع ارادة الفلسطينيين، وأن أي محاولة املاء عليهم بما يُكرِّس واقع الحصار ستواجه بمزيد من التصميم، وأي محاولة للارتقاء في العدوان ستواجه برد يبدأ من حيث انتهى عدوان العام 2014.
في ضوء الاولويات الإسرائيلية المتجهة شمالا، وصمود المقاومة في القطاع واستعدادها للرد بالمثل على أي عدوان واسع، يجد الكيان الإسرائيلي نفسه مضطراً لتسقيف اعتداءاته بما لا يؤدي للتدحرج نحو مواجهة عسكرية واسعة ومفتوحة، وبما يدفع المقاومة لاستهداف العمق الإسرائيلي.. وكل ذلك في مواجهة القطاع المحاصر .