جهاد حيدر
ليس هناك حاجة لاعتراف إسرائيلي، أو اكتشاف أدلة حسية تثبت من يقف وراء عملية اغتيال مدير مركز البحوث العلمية في مصياف السورية، الدكتور عزيز إسبر. المؤكد أنه يأتي في سياق الاعتداءات الإسرائيلية ضد سوريا وعلى الاراضي السورية، بهدف منع اعادة بناء وتطوير قدراتها العسكرية والصاروخية. ولن يغير من التقدير ما إن كان المنفذ يتحدث اللغة العربية أو العبرية أو الانكليزية. فالهدف والسياق والتوقيت، يشكل "بصمات" دالة على خلفية وأهداف هذه الضربة المؤلمة.
تندرج هذه العملية الأمنية، ضمن اطار "المعركة بين الحروب"، التي يخوضها الكيان الاسرائيلي ضد كل ما له صلة بالقدرات الصاروخية المتطورة. لكنها هذه المرة تختلف في التكتيك وتستتهدف حصرا أحد أهم العلماء ذات الصلة بتطوير القدرات الصاروخية التي تهدف إلى استعادة سوريا الندية العسكرية والردع المتبادل الذي كانت تتمتع به قبل بدء الحرب السورية.
عادة ما تهدف الرسائل والمواجهات التي يشنها الكيان الاسرائيلي إلى تطويع ارادة الطرف المقابل. وهو ما يندرج تحت مفهوم الردع، لكن مشكلة "إسرائيل" أن كل رسائلها التهويلية والعملياتية مع الرئيس بشار الأسد، لم تجد نفعا. فاكتشفت "تل ابيب" بالتجربة الملموسة تصميم القيادة السورية على مواصلة طريق استعادة وتطوير قدرات سوريا الردعية. أمام هذا الواقع المعقد، وجدت نفسها ملزمة بانتهاج خيار استهداف القدرات نفسها للحؤول دون تراكمها وتطورها وهو ما نشهده من فترة إلى اخرى.
في المقابل، لا حاجة لانتظار سنوات لاكتشاف مفاعيل هذا الخيار. فلدينا عيِّنة مشابهة تتمثل بنتائج الاعتداءات المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات بوتيرة متفاوتة التي تستهدف عمليات نقل قدرات متطورة إلى حزب الله في لبنان. والجميع يعلم أن نتائجها وتداعياتها على قدرات حزب الله، كانت محدودة جداً. ومن أبرز المؤشرات على هذا التقويم، مواقف القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين أنفسهم، الذين يقرون بتطور قدرات حزب الله كمّاً ونوعاً طوال سنوات "المعركة بين الحروب". وهو ما يكشف على نحو اليقين بأن تنفيذ الضربات لا يعني بالضرورة نجاحها في تحقيق أهدافها العسكرية.
المستجد الاضافي الذي يؤشر إلى نتائج هذا الخيار أن ظروف سوريا والبيئة الإقليمية، باتت تختلف كلياً عما كانت عليه خلال السنوات السابقة، وتحديداً لجهة عودة سيطرة الدولة السورية على أغلب أراضيها، وتراجع التهديد الذي تشكّله الجماعات الإرهابية إضافة إلى تطورات إقليمية، وهو ما قد يكون له دور حاسم في تسريع عجلة التطورات اما باتجاه تطور ميداني يؤدي إلى المواجهة، أو تطور ميداني يؤدي إلى ردع الكيان الاسرائيلي من دون الحاجة إلى المواجهة.
الالتفاف في تنفيذ الاعتداءات والذي تمثل هذه المرة بعملية أمنية دقيقة، له تفسيراته. إذ أن عدم اغتيال الكتور اسبر عبر ضربة عسكرية مباشرة وموضعية، يعكس حقيقة أن "إسرائيل" ماضية في اعتداءاتها بمختلف الأساليب، وفي الوقت نفسه تعكس قدرا من الحذر الإسرائيلي ومساعيها لتجنب تعمد التدحرج نحو مواجهة واسعة. لكنه سيشكل في المقبل رسالة ودافعا لكل الشخصيات ذات الصلة أن يكونوا أكثر حذرا في مواجهة هذا النوع من الحرب الامنية، خاصة وأن الاجراءات المحترفة قادرة على الحد من نجاح هذا النوع من العمليات.
الدكتور اسبر هو من أهم الخبراء وتحديدا في ملف إنتاج الوسائل القتالية الصاروخية وتطوير دقتها، للمرحلة الحالية، التي من شأنها تقليص الفجوة العسكرية مع العدو، باتجاه ردعه عمليا، حتى من دون موازنته عسكريا. ما يرفع مستوى القلق لدى "تل ابيب"، هو تكاتف الحليف الايراني مع الدولة السورية، وامداده بتقنيات الصناعات العسكرية، إلى التنقيات الموجودة أساساً لدى الجانب السورية. ويبدو أن ذلك أحد أوجه معاني مصطلح "التمركز الايراني" في سوريا، وأحد الخطوط الحمر التي لا يخفي الكيان الاسرائيلي عزمه على مواجهتها: منع توريد أو صناعة وسائل قتالية دقيقة في سوريا، عبر المساعدة والمساندة المباشرة الايرانيتين. استهداف معامل البحوث السورية دال على هدا الاتحاه وعلى مستوى التهديد الذي تراه "إسرائيل" في مجال صناعة الصواريخ وتطويرها في سوريا، ضمن برنامج ايراني سوري مشترك.
في كل الأحوال، يدرك الكيان الاسرائيلي صعوبة أو تعذر تحقيق الأهداف المؤملة من هذه الاعتداءات التي يشنها، لكنه يدرك أيضا أن وقوفه مكتوف الأيدي سيترتب عليه نتائج وتداعيات كارثية تطال أمنه القومي. ولأنه يدرك أيضاً مخاطر الانزلاق والتدحرج نحو مواجهة واسعة لا يريدها أي من الأطراف، ابتداء، يقوم بتنفيذ اعتداءاته بطريقة مدروسة ودقة – في أغلب الحالات - تفاديا لدفع الطرف المضاد إلى أن يجد نفسه ملزما حتى لو كان سيؤدي إلى التدحرج كما حصل في ليلة الصواريخ في الجولان فجر العاشر من ايار الماضي. لكن هذا الحرص والدقة لا يعني بالضرورة أن هذا السيناريو لن يتحقق. ولهذه الغاية تعمد "تل ابيب" للاستعداد كما لو أن المواجهة ستنشب مع كل ضربة توجهها.