12 تموز/ يوليو 2006 ، تاريخ اعتُبر بالمقاييس العسكرية الدولية نقطة تحوّل لمفهوم الجيش الأقوى الذي لا يُقهر، وهو تاريخ عملية أسر الجنديين الإسرائيليين التي قامت بها المقاومة الإسلامية في لبنان لإجبار العدو على تحرير الأسرى في عملية سبق لحزب الله أن قام بمثيلاتها وحصلت بعدها عمليات تبادل برعاية دولية، كانت هذه العملية الريح التي كشفت الكثير من المواقف الداخلية والخارجية المتسترة بصفقات سريّة، وبدأنا نشاهد المواقف العلنية المفصلية لسياق العمل المقاوم في المنطقة والموقف العربي الرسمي منه، وكان أولها التصريح السعودي على لسان وزير خارجية المملكة حينها سعود الفيصل والذي وصف به المقاومة بـ "المغامرين"، وتلاها مواقف لبنانية وعربية، كشفت الوثائق السرية لاحقا بين عوكر ووزارة الخارجية الأميركية.
الأنظمة العربية التي كانت تطالب جهرا باجتثاث حزب الله وتصرّ على الإسرائيلي الاستمرار في الحرب من خلال الأميركي ، كانت تُعمل إعلامها في إظهار الويلات التي لحقت باللبنانيين بسبب ما أسموه " مغامرة " حزب الله بإيحاء واضح وتحريضي على الحزب بغية إدانته دوليا وشعبيا وإضعافه عسكريا .
في دراسة التباين أو ما قد يُعرف بالتخاذل الإعلامي العربي، ننطلق من أمرين:
الأول وهو أهمية دور الإعلام في هذه الحرب العسكرية إذ كان يُعتبر أداةَ من أدوات الحرب والتي استخدمها طرفا القتال بقوة ، سواءا بالتضليل والدعاية السوداء والتعتيم الذي اعتمده الإسرائيلي على خسائره الحقيقية والمنشورات التي كان يرميها تباعا فوق الأراضي اللبنانية لتبث الرعب في نفوس الشعب اللبناني للضغط على المقاومة ، أو ما اعتمده حزب الله نفسه من خطابات عسكرية وإعلامية كانت انطلاقتها القوية مع أمينه العام السيد حسن نصر الله ومفاجأة ضرب البارجة ساعر 5 ، وخطابه للمجاهدين كما رد المجاهدين برسالة ثبات ونصر، كان لها وقعا صموديا كبيرا في البيئة الحاضنة ، وارتعادة خوف في البيئة المعادية .
الأمر الثاني، هو الموقف المتوقع من إعلام عربي تجاه حرب تُخاض ضد شعب ودولة عربية ، وما يحمله هذا التوقع من عناوين قومية ونهضوية ووحدة مسار ومصير رددناها حتى باتت معتقدا ، ما لبث أن تحطم مرة بعد أخرى وربما أقسى أصداء تحطمه كان في حرب تموز ، ومؤخرا في الحرب على سوريا واليمن والتخاذل الإعلامي العربي الكبير ضد هذين البلدين العربيين .
بدأ الإختلاف في التغطية الإعلامية يبدو جليا منذ اليوم الأول للحرب وذلك تبعا لاختلاف مواقف الدول من الحرب، لاعتبار أن الإعلام العربي بمعظمه إن لم نقل بمجمله، هو تابع وممسوك من السلطة الحاكمة ويعبّر عن سياساتها فيما يخص القضايا الإقليمية والدولية .
تباينت التغطية الإعلامية العربية لحرب تموز بدءا من تسمية الحرب، ففي حين أسمتها وسائل إعلام حزب الله ومن يدعمه من وسائل إعلامية بـ"عملية الوعد الصادق" أو "العدوان الإسرائيلي على لبنان" كما فعل الإعلام اللبناني المقاوم والإعلام السوري المتعاطف مع المقاومة تماهيا مع الموقف السوري الرسمي من الحرب، أطلقت بعض القنوات العربية تسميتان أيضا تشير إلى موقف أقل انحيازا للمقاومة وأكثر حيادية من الحرب، "الحرب الإسرائيلية على لبنان" و "الحرب الإسرائيلية اللبنانية" وقد اعتمدت هذه التسمية القنوات الغربية وبعض القنوات العربية المتماهية مع السياسة الغربية.
في قراءة الألفاظ والتعابير المستخدمة، كان الخطاب انفعاليا في كل الإتجاهات، ولكن كان التباين واضحا سواءا في الإعلام اللبناني أو العربي، فمقابل التنديد بالإسرائيلي والمجازر التي يرتكبها بحق المدنيين اللبنانيين وقراءات تّذكر بالإحتلال ومجازره ووقفات تضامن عربية مع المقاومة والشعب اللبناني، كانت هناك وسائل إعلام عربية ولبنانية تركّز على المجازر وتحاول ربط هذه الحرب بتصريحات بعض السياسيين العرب واللبنانيين الذين اعتبروا أن الحرب كانت نتيجة "رعونة واستفراد بالرأي" من جانب حزب الله، الذي جرّ الحرب على لبنان، في خطوة قد تكون أكثر تطرّفاً ضد حزب الله من بعض الإعلام الغربي ، الذي لم يستطع الهروب من المجازر والجرائم الإسرائيلية التي كان يرتكبها الإسرائيلي على مدى 33 يوما .
ولتفصيل هذه التغطية قد نحتاج دراسات من رصد وتحليل كمّي ونوعي للوسائل الإعلامية، وقد أجرى البعض دراسات حول هذا الموضوع ربما أكثرها بروزا دراسة تحت عنوان، "تأطير الحرب: تغطية الإعلام المرئي العالمي لحرب لبنان عام 2006"، والتي أجراها كلّ من جاد ملكي (مدير قسم الصحافة والإعلام في الجامعة الأميركية في بيروت)، وأمل ديب (أستاذة الإعلام والإتصال، جامعة البلمند) . تناولت هذه الدراسة بالتفصيل محطات نقد وتباين في التغطيات الإعلامية العربية والغربية واللبنانية، ولكن الغريب في قراءة هذه الدراسة، أن التمحور لم يكن قوميا أو عرقيا أو وطنيا، إنما هو تمحور بين قطبيتي المقاومة و"إسرائيل"، ومواقف كل دولة بإعلامها من هاذين القطبين، وما يفشيه ذلك من تحيز لصالح هذين القطبين.
مثلا، التشابه بين قناة "العربية" السعودية و"المستقبل" اللبنانية والـ"LBCI" كانت أكثر تواءما مع التغطية الإعلامية الأميركية، ومن ناحية المصطلحات المستخدمة "العمليات على إسرائيل" " لضحايا الإسرائيليين"، ومن حيث اعتماد المصادر في الأخبار بميل أكبر إلى الجانب الإسرائيلي، فضلا عن تقارير الإدانة والتصريحات التي كانت موجهة بشكل أوسع لحزب الله . بينما العكس تماما ، كان على الجانب الآخر ، حيث اعتمدت قناة "الجزيرة" وقناة "الجديد" و"المنار" والإعلام السوري في مصادرهم على حزب الله ومصطلحاته ضد الإسرائيلي، كما عمدت هذه الوسائل الإعلامية ومثيلاتها من المسموع والمكتوب، إلى بث تقارير أكثر إدانة للجانب الإسرائيلي وأشدّ تبنياَ لموقف حزب الله من الحرب.
لم يكن مستغربا التشابه في عملية تأطير التغطية الإعلامية للحرب بين الإعلام الأميركي والإسرائيلي وذلك لانسجام الموقف ووحدة المسار بين سياساتهما، ولكن الغريب كان في موقف بعض الإعلام العربي، الذي يُساق بتغطيته في الجانب الحيادي نوعا ما كما فعل الإعلام المصري بإدانة طرفي الحرب وإعتبارهما خاسرين، ولكن الحياد في حرب كتلك يعتبر انحيازا، إذ لا حياد في القضية. وكما شرح بعض الأسباب التي تقف خلف الموقف المصري حينها الكاتب "أرنست خوري" في مقاله في صحيفة الأخبار تحت عنوان "حرب تموز مؤامرات ومفاوضات تحت الحصار ـ هكذا أرضت مصر مبارك "إسرائيل" في الحرب رغم إدانتها مقتل مدنيِّين، معتبرا أن النظام المصري كان يملك " رغبة في القضاء على حزب الله تحت شعار نزع سلاحه، مع إدراك قيادة الرئيس حسني مبارك أنّ الحرب كان مخططاً لها جزئياً من واشنطن، على حد اعتراف وزير الخارجية أحمد أبو الغيط.
ونبعت الحيرة المصرية الرسمية من علم القاهرة بأنّ حزب الله اكتسب شعبية كبيرة لدى الشارع العربي عموماً، والمصري خصوصاً، مع ازدياد منسوب العداء ضد كل من الولايات المتحدة و"إسرائيل".
إدارة مصر للمعركة الدبلوماسية كانت صعبة مع سوريا أساساً، وسط رفض القيادة في دمشق تلبية الأوامر المصرية في مجال ردع حزب الله. في المحصّلة، الأميركيون كما الإسرائيليون كانوا راضين عن الأداء المصري في الحرب، ما يعطي فكرة عن الموقف الرسمي الحقيقي للقاهرة إزاء أطراف النزاع."
هذا تقريبا موقف معظم الدول العربية كالسعودية والإمارات، التي كانت تُظهر معاكستها الإعلامية في الحرب لمسار المقاومة اللبنانية، إضافة إلى بعض المصالح الإقتصادية مع الأميركي والإسرائيلي التي أخذت تظهر إلى العلن مؤخرا .
كانت حرب تموز النقلة النوعية في قياس أية حرب مقبلة على لبنان، وفي تصنيف القوة الحقيقية لحزب الله كقوة جدّية في المنطقة، قرأها البعض على أنها ركيزة لانتصار قضاياه القومية والحقوقية ضد أي عدوان و" وثبة على طريق تحرير القدس والمنطقة من الهيمنة الغربية " فيما قرأها آخرون، على أن هذه القوة هي تهديد فعلي لسياسات الحكام والأميركي في المنطقة هاتين القراءتين فرزت الإعلام كسلاح داعم ومناوئ ، إذ اعتبرت هذه الحرب نشرة علنية تُفضي إلى المواقف العربية إعلاميا وسياسيا وتفضح السياسات الإعلامية المرتبكة في تبني قضايا الأمة، كما وتُنهي حالات التوقّع الإيجابية المفرطة بالنصرة الإعلامية القائمة على وحدة اللغة والقومية والقضية، إذ أن القضية نفسها قُسمت بين معتنقٍ وبائع، والهوية لم تعد تملك لغة القوميات بل باتت أقرب للغة السياسات بين محوري المقاومة واللامقاومة المنصهرة مع الإسرائيلي والأميركي في المنطقة . كما أخرجت الصراع العربي الإسرائيلي كعنوان عريض للإعلام العربي في تغطياته وأخباره، أخرجته من حلته هذه إلى حلّة يظهر فيها الأميركي وأتباعه من العرب في المنطقة إلى جانب الإسرائيلي ، بوجه مفهوم المقاومة وحلفائها في المنطقة ، مكرّسة هوية إعلامية جديدة سقطت فيها الجنسيات ، وطغت القضية ومفهوم التحالفات .