محمد حسين لمع
من مليتا، الممتلئة مقاومةً و جهادًا، اخترنا البداية. و المقصد عاصمة الشرف الاولى…
من بئر الماء - الميرندا - كما كان يتندر المجاهدون بوصفه لوحولَته و عدم صفائه، من هناك بدأنا. و غير بعيدٍ من البئر هذه، دماء شهيدين سقطا بغارةٍ. كانا ينتقلان من رأس التلّة إلى البلدة أسفل الوادي، عبر الخندق الذي حفره قافلةٌ من المقاومين اتقاءً لقصف الدبابات في بئر كلّاب و كسّارة العروش و سُجُد. و في كلّ مترٍ منه، قطرةُ دمٍ أو عرق جبينٍ جُبلت بالتراب… و الكثير الكثير من الكرامة و الشرف..
شرّفوا عاللويزة! تلك كانت جملة الشهيد السيّد عباس الموسوي رحمه الله الشهيرة في منتصف الثمانينات. كان يجيب بها كلّ من ينظّر و من كان مكثرًا من كلامه، مقلًّا من فعله. و اليوم عندما دخلنا الغابة نزولًا من مليتا، سمعت الجملة ذاتها، و بصوت السيّد عبّاس نفسه.. شرّفوا عاللويزة.. و شرّفنا..
لا يمكن للمنتقل بين مليتا و اللويزة الا أن يتوقف عند كلّ تفصيلٍ في المكان. بالجغرافيا، الطريق صخريّ وعرٌ نبتت فيه سندياناتٌ معمّرةٌ و ملّولٌ و زعرور و إجّاصٌ برّي. و قبالة الطريق مباشرةً تقبع تلالٌ عاليةٌ تمركز فيها العدوّ سابقًا. من الشمال موقع الرادار في أعالي جبل صافي، من الشرق بئر كلّاب و كسّارة العروش، و من الجنوب الشرقي مروج عقماتا و سُجد.
تتربع اللويزة على قلعةٍ صخريةٍ كبيرةٍ و عظيمةٍ. و بين الصخور زرعت يدُ الله شجرَ السنديان، فصارت القرية قلعةً محميةً بصديقَي المقاوِم: الصخر و الشجر. كما حباها الله بالكهوف الطبيعية المنتشرة بكثرة. منها ما هو عميق في الجبل و منها ما هو كافٍ ليدرأ عن الملتجئ إليه، قذيفةً أو شظيةً أو يقيَه بردًا و ثلجًا.
و البلدة تشبه فنجان قهوةٍ عربيّةٍ مكسورٌ أحد جهاته الاربع. فترى لها قعرٌ هو مركزها و ساحتها، و يحيط بالقعر مرتفعاتٌ عاليةٌ من الشمال و الشرق و الغرب، تحمي المركز من عوامل المناخ البارد، و قد استفادت منه المقاومة ليجعلها محجوبةً عن مراقبة العدوّ في تلاله المقابلة.
هبطنا المرتفع الغربي الذي يصل اللويزة بتوأمها مليتا سالكين طريقًا مستحدثًا شُقّ على عجلٍ في ذكرى استشهاد أبي محمد الاقليم (حسن الحاج) ابن البلدة و أحد الكبار السابقين السابقين.
ضبابٌ كثيفٌ يلفّ المنطقة، من وادي نهر الزهراني صعودًا إلى مليتا و طبعًا اللويزة. يأخذك الضباب حتمًا إلى تلك اللحظات التي كان المجاهدون يغتنمونها إمّا للتنقّل بين المناطق المكشوفة، أو ليملأوا الماء من البئر، و اليد على الزناد و العين على موقع بئر كلّاب، فالجو قد ينقشع في لحظةٍ و دون إنذار. و كمّ من شهيد سقط عند أطراف البئر أو داخل الخندق بعدما رصدتهم الميركاڤا ذات الرصد الحراري و التلقيم و الاطلاق التلقائي. كانوا ينتقلون محمّلين بالأثقال و ينؤون تحت أحمالهم منحنيِّ الظهر للاستتار و التحجّب عن أعين المواقع المعادية، يكابدون المشقّات الكبار، حتّى إذا ما استُشهدوا ارتاحوا..
عبرنا غابةَ السنديان العتيق، فسمعت تحت الخطوِ أنينَ أناسٍ متعبةٍ مرّت من هنا قبلنا، و رأيت شبابًا بعمر الزهور ينزلقون فوق الورق اليابس و الرّطب فيتلقفهم التراب، و يحنّ تحت أجسادهم المتعبة.
كانت الشمس ما أرسلت خيوطها بعد عندما دخلنا البلدة من جهتها الغربية، و قلّةٌ من الناس قد استيقظت. صادفنا نحّالًا بين القفران، و رجلًا و زوجته يسقيان مساكب الملوخية و الخُضر الصيفيّة، و آخرَ يودّع عائلته قاصدًا بيروت، و لمّا عبرنا الشارع العام الذي يشطر اللويزة بين شرقٍ و غرب، مررنا بمنزل الحاج أبي محمّد الاقليم فكان ساكنًا حزينًا لا حسّ فيه! تلك كانت المقابلة بين الحياة و الموت. فما استشهد أبو محمّد و ودّع عائلته إلى الابد إلّا ليتمتع المزارع وزوجته بزرعهما و نحلاتهما. و ما غابت الحياة من بيته إلا لتدبّ في بيت جاره. و كأنّ في هذا العالم كمّيةً محدودةً من الحياة، تغادر مكانًا لتستوطن آخر. و ما شهادة السابقين إلّا حياةُ اللاحقين.
يستوقفك منظر البيت غير مكتمل البناء بعد و طريقه التي عُبّدت يوم شهادته تسهيلًا لحركة المعزّين. هكذا هم المجاهدون، يؤثرون بناء بيوتٍ في الجنّة فلا يلتفتون إلى نصيبهم من الدنيا. و أبو محمد الاقليم خير من هجر الاهل و الاحباب ليستوطن الجبال و الكهوف و ما منزله المنتصب أمامنا إلّا الشاهد على نوعٍ فريدٍ من الرجال..
في القسم الشرقي من البلدة تزداد الصخور، و الطبيعة تقسو أكثر فأكثر، و هيبة المكان تصبح أكثر وضوحًا.
من هنا، قال دليلنا، السيّد وائل، و أشار صوب الشيّار الصخريّ الكبير.
مشينا طريقًا شُقّ مؤخرًا محدثًا في الجبل أثرًا كبيرًا. لا أحبّ التغيير، أكره الجرافات و الدروب الجديدة. سألتُ صديقي عن كلّ هذه المساحة المجروفة، فأخبرَنا عن مشروع جبّانة للبلدة. و من منظرها و اتساعها، تلاحظ أنها تتسع للآلاف، أي أضعاف عدد السكان الاحياء. لقد عبثت الجرافات بالوادي المقدّس ووصلت حدود أطهر البقاع، حيث سكن المقاوم الاوّل.
دخلنا الغابة، و سرعان ما وصلنا مكانًا فيه شيّار صخرٍ عظيم. وقف السيّد وائل و قال:
- هنا، سندخل من هنا.
* من أين؟ لا أرى أثرًا لباب.
- من الحفرة، و أشار إلى الارض
* هكذا؟ سننحني أو نزحف؟
- نعم. سنزحف قليلًا ثم نقف داخل المغارة.
دخل الحج يوسف قبلي ليرشدني، و مثله فعلت. أحنيت الرأس و مشيت مشية البطّة عدّة أمتار، ثم رأيته يقف فوقفت. أنرت مصباح الهاتف لينكشف المشهد أمامي: كهفٌ كبيرٌ صنعته يد الله، و وسّعته يد الانسان ليكون ملجأً للاحرار. و رمزية الانحناء ثم الوقوف، كأنها تقول: هذا الطريق أولّه صعبٌ، فيه مشقّة و انحناء، لكنّ آخره وقوفٌ و راحةٌ. كذلك هو درب المقاومة صعبٌ و لذلك سمّي بذات الشوكة! لكنّ خاتمته خيرًا كثيرًا و فوزًا عظيمًا.
خارج المغارة، و طوال الطريق كنّا نمزح و نضحك، لكن ما إن صرنا داخلها حتّى تبدّل المشهد. المهابة و الهدوء بدل الضحك و المزاح. يفرض المكان المشحون بالعواطف و ثقل التاريخ هيبته على الزائر فيخضع قلبه و يخشع.
على ضوء مصباح الهاتف، كانت الوجوه تتفحص كلّ شيءٍ في المغارة. الجدران رطبةٌ ترشح ماءً، و رائحة العفن تملأ الانوف، و جيشٌ من البرغش و فراشات العثّ استوطنت المكان بحثًا عن برودة في هذا الجوّ اللاهب. في الزوايا بقايا أخشابٍ و خزائنُ أتى عليها الزمان و الرطوبة، و كثير من أسلاك الهاتف و الكهرباء و بطارية سيارة فارغة موصولةٌ بجهاز تخابرٍ قديم بقي هيكله.
تحسست الحائط بيدي فوجدت مساميرَ عليها بقايا ثيابٍ عُلّقت ذات يومٍ مقاومٍ. شممتها فكانت رائحة عرقٍ و كرامة، و صُورُ بطولاتٍ عبرت في الماضي لكنّها حفرت عميقًا في الذاكرة و الوجدان.. تخيلت أمامي مشهد مقاومٍ يدخل المغارة زحفًا، و قد علقت جعبته بالمدخل الصغير فساعده أخٌ له، و سحبه إلى الداخل اتقاءً للقصف المجنون في الخارج، و لما وقفا تعانقا طويلًا و بكيا، فالثالث في الخارج قد استشهد و ما زال الجثمان في مرمى النار.. كمّ مرةٍ يا ترى حصل موقفٌ مشابهٌ؟ كم مرةٍ بكَوا لفراق حبيبٍ مشَوا معه الدرب منذ انطلاق المقاومة؟ أيّ مرارٍ تجرّع هؤلاء الرجال؟ بل أيّ رجالٍ كانوا؟ كيف ناموا في هذه الغرفة الرطبة الباردة كالقبر دون منفذٍ أو ضوء؟ كيف سكنوا الجبال أشهر طويلة؟ كيف انزرعوا كالصخور؟
راح كلٌّ منّا يتحسس و يلمس و لعلّه كان ينسج شريطَ ذكرياتٍ خاصٍّ به جعل يراه أمام عينيه، حتّى قطع الحج يوسف الصمت و قال سنخرج من الجهة الجنوبية، فللمغارة بابان، سنسلك الجنوبيّ. مشى فتبعناه، و مثل الدخول، كان الخروج صعبًا، مشينا معه مرّةً ثانيةً مشي البطّة عدّة أمتارٍ لنصير في الخارج، في الضوء مجدّدًا.
هذه المغارة ليست قديمةً كثيرًا، هي من حقبة التسعينات.. سنكمل الآن إلى أوّل مغارةٍ و أقدمها.. إلى مغارة السيّد عبّاس.. هناك سترونَ من آيات الله العجاب.. قال يوسف كلماته و مشى، و تبِعناه اتبّاع الفصيل أمّه.
غير بعيدٍ من المغارة الاولى، وقف الحاج يوسف، المجاهد القديم، من جيل الرعيل الاول الذي تشرّف بحمل الشعلة و نقلها إلى الجيل الثاني و الثالث و الرابع، و ما زال يحمل همّ المسيرة و يحفظها من كل شرّ. ما زال يجاهد بنفسه و وقته مع أنّ الشيب قد غزا لحيته، و ما زال يصلح ما فسد هنا و هناك.. ما زال صلبًا بإيمانه بهذه المقاومة التي أعطاها كلّ شبابه و عمره الذي انتصف أو زاد عن النصف. أعطاها خيرة إخوته شهداء و لم ينحنِ. لا يذكر كم مرّةٍ بكى شهيدًا كان رفيق دربه، لكنّه يذكر جيّدًا أنّ كلّ شهيد سقط كان يزيد في عزمه على متابعة الطريق و هو ما زال يرجو من الله أن يرزقه حسن العاقبة.. الشهادةُ ضالّة المجاهد المخلص. و لا عجب إذ يقول : عمّار بن ياسر استشهد عن تسعين عامًا..لا أذاقني الله موتًا في فراشٍ أبدًا.. أسأله كلّ يومٍ أن يُلحقني بأصحابي.. و بمثل ما اختارهم..
بصوتٍ خنقته العَبرة قال يوسف و قد أشار إلى صخرةٍ: هنا مغارة السيّد عبّاس.. هنا أوّل مغارةٍ حُفرت في ثغور المقاومة.
نظرنا باتجاه يده، فوجدنا ساترًا ترابيًا بارتفاع مترٍ و خلفه عدّة براميل حديديةٍ مُلئت ترابًا، قد نبتت فيه بعض الشجيرات. و خلف البراميل تجويفٌ صغيرٌ في الجبل لا تزيد مساحته على عدة أمتارٍ مربّعةٍ.. تلك كانت مغارةَ السيّد الشهيد.
كنتُ منذ حداثتي أسمع عن المغارة في اللويزة، لكنّي لم أرها قبل اليوم. و كم من صورةٍ طُبعت في خيالي عن هذا المكان. مرةً أراها كهفًا عميقًا لا يدخله النور، و مرّةً ملجأً حصينًا لا تخرقه الصواريخ، و أخرى مكانًا كبيرًا يرتاح فيه عشرات المقاومين و السيّد عباس جالسٌ بينهم.. لكنّ كلّ هذه الصور تبددت الآن حيث أقف و أشاهد بأمّ عيني. عيني الحقيقية لا عين القلب. تلك التي لا أوهام في رؤيتها و صورها.
و مغارة السيّد هذه اتضح أنّها لا تشبه كلّ ما تخيلته.. فهي غير حصينة أبدًا و لا داعي للصواريخ لأنّ حجرًا يكفي لتدميرها، و غير كبيرة و لا تتسع لرهطٍ.. باختصارٍ، هي غير كلّ ما تخيلته.. هي ليست مغارةً أصلًا..من قال إنّها مغارةٌ؟ إلّا إذا كان المقصود هو السيّد نفسه.. في هذه الحالة هي كهفٌ.. كهف المجاهدين هو ذلك السيّد الطاهر، ذلك الوليّ و العبد الصالح. هكذا يصحّ وصفها بالمغارة. وما شئت أن تصف به السيّد فلا تتردد، فهو كذلك و أكثر.
حافظت المغارةُ على شكلها رغم كل هذه السنوات، لكنّ البراميل قد غاصت في الارض حتّى نصفها، و تكفّل الماء و الشمس تمزيق الساتر الذي كان يمنع الهواء من الدخول و الضوء من الخروج. و الساتر كان غطاءً من نوع الاغطية التي توزّع في صناديق الاعاشة، لكنّ الايام عرّته إلا من هيكله النايلوني، و بقي منه جزءٌ صغيرٌ يقاوم و يقول: نعم ههنا كان الباب.. من هنا دخلوا. و من هنا دخلنا نحن.
بعد دقيقة صمتٍ تعقب كلّ مكانٍ ندخله، عاد صوت الحاج يوسف يشرح:
هذه أوّل نقطةٍ حفرها المجاهدون بنصيحةٍ من السيّد عبّاس، و لا أقول بطلبٍ منه فهو لا يطلب و لا يأمر، بل يشاور و يشارك بالعمل كغيره تمامًا و من لم يسمع بقصصه الكثيرة في المحاور كيف كان يحرس طوال الليل لينام المجاهدون، و كيف كان ينقل العتاد و الذخائر بعدما يخلع عمامته كي لا يُعرف. سكن السيّد هذا المكان مع ثلّةٍ من المجاهدين تحلّقوا حوله و بايعوه أميرًا على قلوبهم التي أولوه أمرها قبل الامر العسكري. هنا اجتمعوا و كانوا فتيةً لم تؤمن بهم بيئتهم، حتّى أهلوهم رأوا فيهم مغامرين يقودون المجتمع إلى الانتحار. كان سرّ الاسرار الذي غاب عن عائلاتهم، ذلك العشق الذي توقّد في داخلهم. كان فيهم عطشٌ و توقٌ إلى الايمان الصافي و الدين الثائر الذي يحرر الانسان من عبودية نفسه و عدوه، فوجدوا بالامام الخميني و ثورته ضالّتهم، فكان القدوة الحسنة و الامل المرتجى، و في لبنان، كان السيّد الشهيد إمامهم و أخاهم و قدوتهم و ملهمهم، رأوا فيه امتدادًا لخط النبوّة و النهج السليم فاتّحدوا معه و ذابوا بحبّه حتى صارت لهم تلك القوة التي تصارع العدوان فتصرعه، و أثبتوا أن العين تقاوم مخرز الجريمة و الدّم المسفوك في ساحات الحق يهزم السيف.
هنا في هذا المكان القاسي، خلف غطاءٍ رقيق لا يقيهم نسمة بردٍ صيفية، لا أعلم كيف أمضَوا لياليهم في شتاء اللويزة المثلج، و كيف اتقَوا القصف الذي لم ينقطع لحظةً واحدة.
هنا في مغارة السيّد عباس كانت المعجزة الاولى، تمامًا كما كانت معجزة المسيح في قانا الجليل حيث استحال الماء خمرًا، في اللويزة استحال العشق نارًا تدفئ القلوب و نورًا يهدي إلى الصراط المستقيم، و حممًا تكوي كلّ غازٍ.
خرجنا من داخل المغارة إلى باحةٍ خارجيةٍ فيها بعض الآثار من حقبةٍ قد اندرست. و عاد صوت الحاج: في هذه الساحة أطعم السيّد عباس المجاهدين بيده. كان أحدهم قد أحضر المهلبية معه و أصرّ السيّد أن يطعمهم من ملعقةٍ واحدة. اصطفوا و راحوا يتقدمون منه واحدًا تلو الآخر و هو يلقمهم الحلوى في أفواههم. لم يكن المشهد عاديًا أبدًا في دلالاته، فالقائد هو الخادم المتواضع الذي يقف تحت مرمى العدوّ في بئر كلّاب، و المخدومون هم المجاهدون الذين هجروا أهلهم و رغد العيش و جاؤوا يستوطنون هذا المكان دفاعًا عن المستضعفين المحتلّة أرضهم. و اللويزة التي خرج أهلها منها شكّلت الوطن الحاضن و البيئة المناسبة لينموَ فيها هذا الزرع الجديد المسمّى مقاومة. هكذا كان هذا الثلاثي: السيد عباس، المجاهدون، و اللويزة، الركن الاساس في بناء المقاومة التي اشتد عودها و نما حتى صارت سنديانةً لا يهزها ريح.
جلست على نفس الحجر الذي ارتاح إليه السيّد ذات يوم، فهاجت في نفسي مشاعر لا طاقة لي بوصفها. هنيئًا لمن عاش زمن هذا الرعيل الاول و أكل من يد هذا العبد الصالح هنا. لا يستوي من آمن بالمسيرة يوم كانت مستضعفةً بمن آمن بعد الفتح. هنيئًا لمن تخرج من مدرسة اللويزة.
ثم أخذنا السيّد وائل إلى مكانٍ مجاور قال إنه المطبخ. ما زالت علبة حليب تاترا في المكان مكتوب عليها صنعت في تشيكوسلوفاكيا، البلد الذي تفكك عام 1992، شاهدةً على التاريخ. ها قد زالت دولٌ و تفككت، و ولدت أخرى، و المقاومة باقية.
من جديد خلف السيّد وائل إلى مكانٍ لم يكن يعرف ما هو، عبارة عن تجويفٍ نصف دائري يشبه المحراب، فتولى الحاج يوسف الشرح: إنه محراب الشهيد عباس حمّود، هنا كان يطيب له الصلاة، هو صنعه بيديه، و هذه الحجارة تشهد.
أرسلت الشمس خيوطها الاولى على غرب اللويزة، فكان الاذان لنا بالعودة، مع أنّ في المكان المزيد للاكتشاف.
و من صخرةٍ إلى أخرى قفلنا عائدين إلى مليتا حيث انطلقنا، و سلكنا طريق الغابة التي كان المجاهدون يسلكونها. دون أثقالٍ على ظهورنا، دون خوفٍ من الميركافا، و وصلنا منهكين..
وحدها جملةٌ ظلّت تتردد في أذني طوال اليوم:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ.
تلك كانت آيةً كريمةً تحكي عن الكعبة الشريفة..
و هنا يصحّ قول:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلمقاومة لَلَّذِي بِاللويزة مُبَارَكًا وَحجّةً على الْعَالَمِينَ..