أمير قانصو
كان يجوب الجبل.. خفيف كأوراق الخريف، بالكاد تلامس قدميه التراب وهو يقفز من تلة الى تلة.. واذا جن الليل أخذ له عشاً كعصافير صافي في قلب السنديان.. لا تنام لها عين.
هذا موطني.. فوق الغيمات، صافي كعين من معين، وقاس كهذه الصخور...
"تعال معي".. لحقت به أشد الخطى في الدرب الذي ألِفه جيداً، عرف تعرجاته وحفظ حتى موضع حجارته.. مشينا حتى وصلنا الى مشارف "الرادار"..
"انظر.. من هنا جاؤوا يوماً".. كانت كومة حديد أكل أجزاء منها الصدأ.. ويكشف هيكلها عن آلة حديد كبيرة كانت تسمى قبل ذلك ملالة نصف مجنزرة.. أو شيء من هذا القبيل خصصت لتقي الغزاة من الموت.. فاذا هي تقع في فخ رجل الجبل ورفاقه.
رجل الجبل.. كان يعرف صافي وامتداداته جنوباً وشرقاً، يعرف أن هذا الجبل الصاعد علواً، "كالمارد فوق الاكتاف"، "هو القلب النابض للمقاومة.. ولذلك يريد العدو أن يسقطه ولن يستطيع".. قال ذلك، واشار الى المقام (مقام صافي، من أولياء الله الصالحين) "ببركة رجال آمنوا بالله".
مرت سنوات، لم أعد أعلم عن رجل صافي شيئاً، لم أكن أتوقع أن يبرح الجبل، حتى رأيته في أحد أحياء الضاحية يقود سيارة أجرة، قلت في سري، أن رجل الجبل نزل الى السهل.. هنا لن يحتاج الى طلعة (المؤمنة) تقطع أنفاسه، ولن يتوسد حجراً.. ولن يكون مضطراً للركض بين الحفر، يحث الشباب على الاحتماء جيداً وهو ينادي "حربي بالاجواء".. ثم حين تغير تلك الطائرات لن يهدأ له بال حتى يطمئن الى أن كل رجاله بخير.
قلت في سري.. رجل الجبل ليس بخير، ولو كان بخير لما ترك الجبل ونزل الى هذه الدنيا وشقائها.. متخذاً من سهلها سبيلاً لعيشه.
مرت سنوات أيضاً، ربما أكثر من 14 سنة على اللقاء الأول، صعدت الحافلة الصغيرة، نظرت الى السائق بطرف عيني، نعم هذا رجل الجبل.
قلت له أنا أعرفك.. ألست رجل الجبل هناك وأشرت الى جبل صافي، على بعد المسافة عنه، لكن الرجل فهم الاشارة .. ضحك وقال "الرجل في صافي هو رجل في كل المواقع..".
رأيتك تقود سيارة أجرة، فقلت أن الرجل خلع بذّة القتال ونزل من الجبل الى السهل.
ـ هو حال الدنيا.. وعلينا توفير متطلبات العائلة (كان يعمل في فترات استراحته)
ومضى بنا يقود الحافلة في الجبال الواقعة هذه المرة غرباً قبالة الحدود الجنوبية.
****
آخر مرة رأيت بها رجل الجبل.. كانت مساء يوم 12 تموز 2006، حين عرضت قناة "المنار" صورته مرفقة بالبيان "تزف المقاومة الاسلامية الى شعبها الابي، الشهيد المجاهد: ابراهيم محمد رجب. استشهد اليوم الاربعاء 12/07/2006 اثناء المواجهات البطولية مع قوات العدو الصهيوني في جنوب لبنان، الشهيد مواليد بيروت في 10/11/1958 "قيد النبطية/الكفور". التحق بالعمل التعبوي في العام 1982، التحق بصفوف المقاومة الاسلامية في العام 1988، خضع للعديد من الدورات العسكرية، حائز على تنويه الامين العام".
لقد مضى الرجل، الى حيث سعى، ومن يسعى سعي ابو محمد.. سيصل الى الشهادة.
***
حين كنت أستعيد بعضاً من الذاكرة حول الشهيد ابراهيم.. سألت أحد الاصدقاء من بلدة الكفور (مسقط رأس الشهيد) عنه.. فقال لي تقصد الشهيد والد الشهيد محمد حسين ابراهيم الرجب.
لقد شق الحاج ابراهيم الرجب طريقه من الاوزاعي جنوباً.. وكان أول شهيد للمقاومة في التصدي للحرب الصهيونية في تموز 2006، وكان حيث يجب أن يكون، لم تحدّ جهاده الجغرافيا.. صعد الجبال ونزل الوديان ومضى في السهول.. امتشق الحق سلاحاً ومضى.. وكذا هو ولده محمد حسين ابراهيم الرجب الذي استشهد في المليحة بجوار دمشق.. مدافعاً عن خط ونهج اعتنقه والده قبله.. وسار هو به، مجاهداً وشهيدا.
بوركتما شهيدان.. وبوركت الرجال حيث تكون.