رباب مرتضى
وينسلُّ إلينا شباط من كلِّ عام، فتغمر الدمعة الوجنات ممزوجة بالكبرياء، فبيارق النصر لاحت مذ خطّت قدما الإمام الخميني أرض إيران، ولا فرق لدينا إن كان النصر فتحًا مبينًا أو دماء قانيات تسفح على مذابح الوطن، عزيزة رغم آلامها، شامخة رغم ما خلفته من عويل الأيامى..
راغب.. عباس.. رضوان، أسماء لمّا تزل محفورة في الوجدان، منارات يهتدي بنورها السالكون، ويستنير من ضيائها المحبون المريدون، ومعالم شامخة تسمو بمن ارتضى سبيل الكرامة دَيدنًا وسبيلا...
بطولاتهم تأبى إلا أن ترتسم في الذاكرة عند ذكر أسمائهم.. بيارق مجد تلوح من أفق بعيد عزّة وكرامة وإباء..
تعود لنا ذكراهم، فيتراءى للناظر من بعيد ركبٌ للشهادة يشع منه النور، فتنعكس انحداراته إلى مجاهل العالم..
أحياء تجري أسماؤهم كالأساطير القديمة، يتردد صداها اختيالًا على ألسنة المسنِّين وأفواه المحدِّثين، وبين طيَّات الزمن الذي ما انفكَّ يرجِّع صداهم تيّاهًا على غابر السنوات، فطالما عانقهم المجد في صافي وبئر كلاب وسجد والريحان.. وطالما رجَّعت الأودية رقة أصواتهم في أدعية السحر، الممزوجة بدوي المدافع وأزيز الرصاص.
وتعود الذكرى، تزهو برجالاتها، تحمل أشواقًا مضرَّجة بأريج الشهادة، ونحنو عليها، نتلمَّس آثار ما خلفته من انتصار للدَّم الزاكي على غطرسة المستكبر المستعلي... وتلكما الأرض التي خلّفوها لما تزل تحدّث عن وقع أقدامهم..
محراب صلواتهم فرغ من أصحابه، ولا زال المصلى يتلهف ريحهم مع صوت المؤذن للصلاة..
بداية اللقاء، كانت مع من حُفر اسمه بأحرف تسطع نورًا على صفحات التاريخ المشرقة، ممن رغبوا بحرب لا هوادة فيها مع آلة القتل الصهيونية، في زمن عربيٍّ خانع، لا يعرف للكرامة سبيلًا غير الاستسلام، في زمن كان الضعف مبررًا والسكون قناعة بأن العين لا تقاوم المخرز.. فعلّمهم الشيخ الشهيد كيف تقاوم الكلمة جحافل الاستكبار، وابتدأ بنفسه ليكون شهيد القضية، فـ"المصافحة اعتراف"، مبدأ لم يكن ليتنازل عنه لو كلفه ذلك سفك دمائه، ولو كابد في سبيله عناء الأسر وآلام الجراح، فقدّمها غالية دون هوادة، وفتح بنفسه طريق انتصار الدم على السيف يوم عزَّ الفداء.. فأنبتت ثرى أبي ذر شجرة وارفة تؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربها، لننهل منها أن "الموقف سلاح" وأن دم الوريد أقصر المسافات إلى دار الخلود.
وفي ذكراه، يأبى رفيق الجهاد إلا أن يتابع المسير على محراب الوفاء، ويكون رفيقًا للشهادة، وتعلو تكبيرات من أسطح المنازل مع دوي القصف الصهيوني طريق عام تفاحتا النبطية، فالسيد مرَّ من هناك مع عائلته إثر عودته من ذكرى الشيخ راغب، كلمات رددها المشاركون في الحفل الذي أقيم في جبشيت، وخفتت الأصوات وخشعت القلوب ترتجف من هول الفجيعة، إنه السيد..
" رب ارزقني شهادة مطهِّرة يتناثر فيها لحمي.."، قالها بصدق، وقصدها بعشق، وألحّ على معبوده بها، حتى عرج يحثُّ الطريق إلى نور الله المتَّقدة في وجدانه وبين أضلعه، وبقينا نحن هنا في سجون أنفسنا نستلهم منه تهذيب النفوس علَّنا نتقن جوهر العبادة وسموَّ الهدف..
ألا ليتنا سيدي ممن يستمع في لياليك إلى دعاء الحزين، هناك!.. في إحدى مغارات الجبل الرفيع ودمعة العشق تنساب على وجنةٍ واجفةٍ تخاطب مالك الملك.. علني أحظى بحمل قربة الماء لكم أو لأحمل عن عاتقك الجعبة الوازنة، أو لأمسح عن جبهتك الشريفة عرق الجهاد.. لأفوز كمن فاز معك بنصرٍ مؤزر أو بدمٍ مسفوحٍ على أرض تزغرد على وجهها الأرواح طربًا بعروجها..
ويأفل شباط.. حاملًا معه عزيمة البطل، "رضوان".. وأيُّ وفاء أنت!..أيُّ بطل ذاك الذي أرق الصهاينة وقض مضاجعهم؟.. أي ولاء ذاك الذي أعجز عتاتهم لعقود طالت دون أن يهدأ طرفه عن ملاحقة فلولهم أينما وجدوا؟.. بل، أي تصميم ذلك الذي يجعل أفولك هاجس الأعداء ومحرابهم الذي يمموا وجههم شطره..
أولم يعلموا أنهم برحيلك كتبوا آخر أسطر من حياتهم؟.. ألم يعرفوا أنهم باستباحتهم دماءك الطاهرة أنهوا وجودهم من الحياة إن شاء الله؟..
وفي شهر الدمعة الغراء!..
نردد ما قدمه لنا سماحة الأمين على الدماء، ولن نهاب ما حييا إن قتل منا مئات القادة، فإننا نحيا بهم ونحث الطريق على هداهم ما دام فينا الدم الحسيني يجري، فـ"نحن قوم لا ندَّخر أبناءنا ونقاتل بأبناء الفقراء.. نحن قوم قادتنا شهداء.. نحن قوم نفتخر بقادتنا المجاهدين الذين يحملون السلاح..".. فلكم منا ألف تحية وسلام، تحية مقاوم.. تحية مجاهد.. تحية من علّمنا أن عطاء الدّم ثمن الحرية.