إيمان مصطفى
من أين نأتي بحديثٍ لأرواحِهم العارجةِ نحو الملكوت.. نحن المسجونون في زنازين أنفسنا الأمارة إلّا ما رحمَ ربّي؟
كيف يرقى بنا المشهدُ لنسير مع ركب "العمامة" الإنسان، الأب، والزوج.. نتلمس خطاها، ونستشعر رقتها..
نحاول في بضعة أسطرٍ إفشاء بعض حنايا حياتهم الدّفينة، علَّها لم تظهر مسبقًا للعلن.. لنعود إلى زمن "العمامتين" اللتين رغم ما باعد بيننا وبين وجودهما من أيام، إلا أننا لم ولن نتخلى يومًا عن تقفِّي آثارهما... وهذه هي الحكاية..
العمامة البيضاء..
أغمض عينيك.. لتراه واقفًا بين خمسين يتيمًا ويتيمة، لا معيل لهم، ولكن أين ذهب الشيخ؟ هو هنا.. لما يزل ماثلًا أمام أعينهن، وهو الأب الرؤوم والوالد العطوف لأطفال الجنوب لو اجتمعوا..
لا تزال عواطفه تدفئهم في برد شباط.. لم يخضع ولم يتنازل قط، فدفعها دماءً غالية روى فيها أرض جبشيت لتثمر أجيالا من الشهداء على دربه، ولتبقى صور ذكراه في أفئدة المحبين، يبتسمون لها ممزوجة بدموع الشوق رغم تباعد الأيام..
أحب الشعر وقرأه، وقرأ الجرائد لا سيما جريدته "السفير"، و"الكروش" أكلة الشيخ المفضلة وإذا ما علم أن إحدى معارفه قد طبخت هذه الأكلة فإنه أول المدعوين إليها ليأكل!.. ومنذ طفولته كره الاحتلال ومقَته، ورفض وجود العدو الصهيوني، فمحى بيده كلمة "إسرائيل" عن الخارطة وثبَّت مكانها فلسطين.. وهذه صور من حياته في كلمات..
*ممَ تخاف يا بني؟ إنه لا يملك شيئا! انظر إنه يخاف ويختبئ وراء دبابته.. كلمات حفظها حسن، الشهيد، ليثبتَ بعدُ في وجه جبروت الصهاينة، فإنه لم يعد يشعر بالخوف بعد أن سمع طمأنات عمه الشيخ..
"تواجده بيننا لم يكن طويلًا، إلا أنه رغم ذلك كان يشبعنا عطفًا في لحظات، فنشعر بأن الدنيا قد ملئت ضحكات لا حدود لأصدائها"، هذه الكلمات ترددها ابنة الشهيد الشيخ راغب حرب، حوراء، متابعة كلامها بابتسامة ممزوجة بغصة الشوق، "يجمع بنات المبرة التي اتخذ من قلبه منزلًا لهن، يمازح إحداهن ويغمر الأخرى ويسمع غناء ثالثة.. دون أن يشعرهن بعناء يوم شاق، وبقلق يتربص به ليل نهار خلف جدران المنزل.
"ألم تصلي يا بنيتي؟" سأل إحدى صديقات ابنته، وهي مستغرقة في لعبة الـ"x"، فأجابت باستحياء: "لا"، فطلب أن يكمل دورها في اللعب حتى تتم صلاتها، فخسرت في اللعب وربحت عنوان الصلاة التي لم تكن لتغفل عنها بعد تلك الحادثة.
لا أزال أذكر لطائفه، حين تأتي أختي فتبتدئ الحديث لتخبره عن أحد ما، فتقول: "شفت فلان.."، فيقاطعها "لا ما شفتو.. وينو؟"، وتتعالى ضحكتها، أو عندما يلتقط أحد الصبية من الشارع ويلفه بعمامته كي يعرف اسمه أو ابن من يكون.. وأصوات الأطفال عند خروجنا معه بالسيارة، حيث كان يصطحب كل من استطاع جمعهم من أطفال من أولاد عمه أو إخوته الصغار، تلك الأصوات التي يجب أن تصدح بالأناشيد طيلة الطريق في السيارة، "أحب الصلاة وأشتاقها.."
"التلفاز هو الشيطان المتمثل في المنزل"، هذا المبدأ لا ينفك يردده، فدومًا يعمد على إقفال الشبابيك بـ"الأغطية" السميكة، لتظلم الغرفة ويجعلنا نشاهد الأفلام الهادفة من ماكينة كان يستعيرها، أو لنشاهد أنفسنا من خلال أفلام قصيرة كان قد صورها في صغرنا.
الحجاب عند الشيخ كان خطًّا أحمر، لا يجوز تجاوزه، إلا أن أسلوبه كان كشخصه طاهرًا ونقيًّا، فلم أعرف أحدًا امتعض من ملاحظته، وأتذكر كيف أنه رأى يوما امرأة (دون حجاب) توزع "الهريسة" على حب الإمام الحسين عليه السلام، فقال لها ممازحًا: "السيدة زينب رح تضربك بالعصاي، وتدور فيكي سلخ"، أو أنه في إحدى المناسبات قال عندما انتهى من عقد القران "المحجبة عقبالها وإلي مش محجبة انشاء الله ما بيجيها عريس"، وعندما صعدت معه إحدى بنات الضيعة في السيارة وكانت تشعر بالبرد وهي كاشفة الرأس، كيف قال لها "العمامة مدفيتني الحمد الله".
فلاحيٌّ بطبعه، يحب المواشي من غنم وبقر، ويساعد أهله في تنظيف الحظيرة ورعاية المواشي، وقد اشترى غنمة ووضعها عند أهله، وقد ماتت ليلة شهادته دون أن يعرف أحد السبب.
تضحك ابنته عند ذكرها القصة، ضحكة ممزوجة بمرارة الفراق، إنه الشيخ راغب، وتتابع كلامها: "روت لي امراة من بلدة عبا مر بجانبها الشيخ، وكانت عم "تبربس" على زوجها، فسألها: "شو عملك الحج لحتى عم تبربسي عليه؟، فقالت: "ما جاب بيطري للبقرة، ما عم تقدر تولد، ورح تموت بين ايديي"، فدخل الشيخ راغب وبيده، التي ما خضعت يومًا ليد المحتل، لمس ظهرها مسمِّيًا باسم الله، فأنجبت... فانطلق دعاؤها بلهجة الجنوب الأشم "يا تقبرني، يسلمو دياتك الطاهرين".
العمامة السوداء..
"أتذكر أيامنا معه، أتلمَّس وجهه بيدي.. فأرسمه ذاكرة لا تنسى"، تقول ابنة السيد؛ "وما زالت أستشعر راحة يديه تتحسس جبيني.. وهو الحنون المتدفق عاطفة".
بتول الموسوي، تفتّش بين كلماتها عن حكايا غادرت منذ سنين، تتحدث بعفويتها المطلقة وصدق مشاعرها عن "حبيبها الأول" وعن تفاصيل حياته، طعامه، أخلاقه، عقوباته، ولطائفه..
لم يكن يترك لحظة تفلت منه ليقضيها معنا رغم ما كان على كاهله من أعباء.. يحب القراءة، ويتمنى أن يمتلك من يومه ساعة يمارس فيها الرياضة أو المشي، وطالما كان يلعب مع إخوتي بالكرة أو "الكارتيه".. أتذكر خروجه من المنزل، مع غمرةٍ عطوفةٍ لم ينسها يومًا مع تقبيل الجبين، أتذكر كيف يناديني لأحضر له "المنشفة".. وهو يحب ذلك وأنا أنظر إلى الماء المنسكب على يديه خطوطاً بلورية لامعة.
لا أنسى حماسته عندما ننهي قراءة أحد الكتب، ولا إشراقة عينيه عندما أقرأ جزءًا من القرآن الكريم بتجويد مميز.. وأتذكر كيف كان دائم التشجيع لي عند عزفي على "الأورغ"، الذي تميزت به منذ نعومة أظافري، ولا أنسى هديته لي عندما عزفت أول لحن لي وهو "حبيبي يا خميني" وعلّمته لأخي.. ولا يزال ذلك المشهد الجميل المفعم بالحيوية ماثلًا في مخيلتي.
كان والدي يميزني وأختي في الهدايا، ولا يغيب عن بالي كيف كان يطلق على كل واحد منا كنية خاصة.. فأنا "أم الحسنين"، وأخي "أبو الفضل".. أما والدتي فلم ينادها يومًا إلا "أم ياسر".. حتى العقوبات أتذكر رقتها، فأكبر عقوبة للصبيان كانت أن يحرمهم لعب الكرة.. أما أنا فكان يحرمني من عذوبة صوته ويقاطع الحديث معي.
"لم يكن والدي يرفض أي صنف من الطعام بل يشكر الله على نعمه، ولكنه إذا ما علم أن أم ياسر قد طبخت "الشيش برك" فإن قلبه يفرح لذلك.
آه لتلك اللحظات.. وآه لأم ياسر في حياة السيد عباس.. هي الحبيبة والرفيقة والزوجة.. عندما نريد أن نتحدّث عنهما فإن الكلام لا ينتهي. كيف يساعدها في أعمال المنزل ورعايتنا بدون تذمر أو ملل بل كان يحب ذلك.. وكيف تخرج الكلمات من شفتيه وهو يشرح لأمي تفاصيل يومه.. وعن علاقتهما المميزة التي مثّلت انعكاسًا مصغرًا لحياة الامام علي (ع) والسيدة فاطمة الزهراء(ع).. كيف عاشا رهناً لتحقيق هدف الشهادة سوياً فهو الهدف الذي لا يدانيه في القيمة آخر.
بتول الموسوي، تروي قصة حصلت في النجف مع السيد عباس وزوجته.. كانت أم ياسر تنتظر السيد ليعود بطعام الإفطار في إحدى ليالي شهر رمضان.. عاد السيد فارغ اليدين فقد وزع حفنة المال التي كانت معه على أحد السائلين، فسألته أم ياسر "ماذا سنفطر اليوم يا سيد؟"، وإذ بأحد العلماء يحضر ومعه أطيب أصناف الطعام .. فحمد الله الذي طالما أوكل أمره إليه.
وعن "سندويشة الزيت والملح" تخبرنا بتول الموسوي " كما حال الكثير من عوائل المجاهدين.. سأل أخي في أحد الأيام التي كنا نمر فيها ببعض الظروف المادية الصعبة عن الطعام فلم يجد شيئا.. وكانت أم ياسر في عمل خارج المنزل.. فلف له السيد الزيت والملح، وكانت أشهى من أي طعام آخر"..
لطالما كان السيد يعاتب بحسرة من يؤذي حيواناً لو كان ذلك دون غير قصد، وينزعج عندما يموت أحد "الصيصان" التي نحضرها أنا وإخوتي الى المنزل، أو حتى لو قمنا بملاحقة فراشة.
السيد عباس لم يكن يبكي إلا في دعائه وصلاته.. ويشتّد بكاؤه في دعاء الندبة صباح يوم الجمعة عند قبور الشهداء.. ولكن اللحظة الأصعب في كل محطات حياته والتي أثرت به ورأيت عينيه فيها تتوهجان بالدمع هي لحظة وفاة الامام الخميني (قده) .. فقد رأيته أسير حزنه، لأنه هو من كبّر من على سطح المنزل قبل فترة وجيزه عند سماعه خبر خروج الإمام معافى من المستشفى.
في ذلك اليوم الأخير كان يتحضر للرحيل.. انسل الهدوء الحذر لمنزلنا.. خرج بعد أن أيقظ أخي ياسر وقال له تعال "إنها فرصة لا تعوض".. ارتسمت ابتسامة على وجهه لا يمكن وصفها إلا بأنها ابتسامة التقاء الحبيب بحبيبه.. وكان اللقاء وبقيت الوصية الأساس حفظ المقاومة وبقي هو.. سيد عمري.