كم كانت مهيبة هذه الليلة!
هي الليلة التي خُصِّصَت لمصاب علي الأكبر عليه السلام. ومثل كل ليلة من ليالي عاشوراء بدأ أهالي الحي بالتوافد لقاعة العزاء، شيءٌ ما مختلف هذه الليلة في القاعة، ثمة لوحة مضافة هذه الليلة!
صعد القارىء إلى المنبر، بقي واقفاً وكذا طلب من الحضور، ليلة مهيبة!
أشار إلى اللوحة وصدح بصوته "الشهيد مصطفى صالح صالح والشهيد علي عبداللطيف عمار قاتلوا ضمن مجموعة من الأقمار من الصباح الباكر ضد التكفيريين فارتفعوا شهداء، نحن في هذه القاعة وفي كل القاعات كل يومٍ في زمن العزة والإباء، بوفاءٍ وإباء نردد لبيك يا حسين، لكن الشهداء لبوه بدمائهم الطاهرة. نرفع التحايا معهم كما لبوا بدماءهم نحن نلبي ونستعد أن نكون من أهل البذل بالدماء لبيك يا حسين... وضجت القاعة بنداء التلبية "لبيك يا حسين."
هكذا بدأ المجلس الحسيني في هذه الليلة، بقبضات "لبيك يا حسين" وعيون شاخصة نحو اللوحة التي تحمل صورة الشهيدين. شابان في عمر الورود، وجوههم تطفح بالنور، بالإيمان، بالطهارة، وجوههم ضاحكة، متيقنة، زيّن وجههما القاعة، وزادها ضوءً وهيبةً وتصديقاً، هنا كانا يسمعان مجالس الحسين عليه السلام في السنوات الفائتة، ويقسموا أن يلبوا النداء، وكذا كان، في أيام الحسين عليه السلام في عاشوراء هذا العام.
وعند العودة من المجلس، بيت أي شهيد سأدخل أولاً لأبارك! هما منزلان في نفس الشارع، يفصل بينهما بضع بيوت، هما جاران وصديقان، ورفيقا جهاد، وصارا اليوم رفيقا شهادة!
أهل الحي منقسمون بين المنزلين، يواسون أهلهم، ويتداورون تلقائياً بين المنزلين، كلاهما عزيز. دخلت المنزل الأقرب منزل الشهيد "مصطفى صالح"، أمه تحمل ثيابه تغسلها بدموعها وتعاتبه " قللي ع الأربعين بدو يستشهد مش هلأ." هو رحل في أيام الحسين عليه السلام، وكل يومٍ عاشوراء. واليوم تلبي وصيته "بس استشهد بتدفنوني بعيتا."
خرجت من المنزل لأمشي قليلاً وأدخل منزل الشهيد "علي عمار"، على التلفاز مجلس علي الأكبر، وأم تجلس مقابله أُثكلت صباحاً بأكبرها ووحيدها علي، ومع كلمات القارىء تتفاعل "علي يا ضيا عيني"، تغص عيناها بالدموع، اليوم أحست بحقٍ حرقة قلب ليلى، الليلة هي أقدر على مواساتها! وابن ليلى هو ابن إمام زمانه، من استشهد ابنها فداءً لنهجه.
في بئرحسن، بين طرقات ضيقة وأزقة، ومن خلف جدران مهترئة وبيوت متواضعة. تربى شبان كانوا أسوداً في الوغى، مشبعي العز، فائضي الكرامة، ممتلئي الإباء، في قلوبهم رصيداً من العشق كفاهم ليصدقوا ما عاهدوا الله عليه.
كان أديب بحسون وعبدالكريم دقدوق، بدمهما الذي عمّد أرض الجنوب ودم رفاقهما كان تحرير أيار/ مايو عام 2000، وبدم ماهر سيف الدين ورفاقه كان نصر تموز/يوليو عام 2006، وبدم وسام حاطون ورفاقه عام 2008 كان 7 أيار/مايو يوماً مجيداً، وبعده كان دم رضوان رحمة عام 2011 فاتحاً لركب شهداء دفاعٍ مقدس. فكان ربيع فارس أول شهيد ارتفع قرب مقام السيدة زينب عليها السلام، وبعده حيدر أيوب، مصطفى صالح، محمد مهدي لوباني، حسين عبدالله، أحمد الريس، حسين معنقي، حسين الطويل، والفدائي محمد كرم.
واليوم زفة الشهيدين الصديقين الجارين علي عمار ومصطفى صالح. أذكرهما، كما اذكر جارهما الشهيد أحمد الريس الذي سبقهما عام 2014، أذكرهم أطفال، فتية يلهون في الحي، أذكر أني كنت عندما أتحدث مع احدهم كان يرفع رأسه للحديث معي، لفارق السنوات بيننا وبالتالي الطول. كانوا يكبرون أمامي، وهم في بالي فتية صغار. وعندما يأتي خبر الشهادة، يفاجأني ويهزني بأنهم كبروا! أنهم وإن كان عمرهم حول العشرين ربيعاً أصبحوا شهداء بعد بضع سنوات من الجهاد! وأنني اليوم عندما أريد أن أخاطبهم أحتار بأن أرفع رأسي إلى حيث وصلوا في عليائهم، أم أدني رأسي خجلاً منهم، من مكاني وصغري أمام علو مقامهم!
هي الشهادة موت الأذكياء! من يعرفون بحقٍّ ودم إدارة الوقت واستثمار الروح، وشراء أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.
هم الذين يختصرون الزمان، يعبرون دروب العمر مسرعين، حاملين معهم فيض قلوب فاضت عشقاً لآل بيت محمد الأطهار، ووفاءً وإباءً لسيد الأحرار.
وفي أيام أبا عبدالله الحسين عليه السلام، في صحراء البادية، وكل أرضِ كربلاء، التحم أحفاد الحسين مع أحفاد يزيد، في الأيام المخصصة لمصاب الأكبر والقاسم عليهما السلام، هب رفاق الأكبر والقاسم لاستقامة الدين، سطروا أروع الملاحم، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا..
ومنهم الشهيدين "مصطفى صالح" و "علي عمار"، وبين منزليهما منزل رفيقهما الشهيد " أحمد الريس"، ومقابل منزل الشهيد "علي عمار" يقع منزل الشهيد من مرحلة ما قبل التحرير "عبدالكريم دقدوق" صار الشارع بحق "شارع الشهداء".
بئرحسن، حي يتزين يوماً بعد يوم بشهداء بعمر الورود، تشرق وجوههم مع كل فجر، وتسطع في سماء كل ليل.
يا شهداء، يا كرام، يا جيران، أذكرونا، "النبي وصى بسابع جار".