إنه النصف من شعبان، يتجدد في كل عام، حاملاً معه الذكرى المباركة للولادة العظيمة لمنقذ البشرية، ناصر المستضعفين ومُبيد الظلم وداحِر الإضطهاد وناسف الإستبداد ومُجَلّي القهر ومزيل القمع ورافع التسلط وقامع الجور. إنه الشمس المشرقة الذي ينتظر إشراقتَها كُلُّ شريف وحُرّ وأَبِيّ، إنه القمر الساطع الذي يترقّب إطلالَتَهُ كُلّ الموالين والمحبين والعاشقين، إنه الفجر الذي ينتظر بزوغَه كل المنتظرين في محراب العشق والمُصْطَفّين في صفوف المعارج الإرتقائية في أوقات الصلوات لعله يَؤُمُّهم في رَحلاتهم العروجية ويَسُدُّ ما يتخللها من ثغرات وتشويشات على هامش الحياة المُشغِلة. إنه الوعد الإلهي لإحقاق الحق وبسط العدل وتعويم السيادة الربانية وتطبيق حكم الله في الأرض. إنه مُثْلِجُ قلوب المُتَيَّمين ومُهَدِّئُ أفئدة المُتَلَهِّفين الذين اشتعلت في نفوسهم حرارة الإنتظار، يرتقبون الطَّلعة الغرّاء التي تُخْمِدُ هَيَجان بركان أرواحهم، فَتَفوح رائحةُ الفرج على مائدة المُتَوَلِّهين لنظرةٍ الى معشوقٍ طال انتظاره، وإمامٍ امتدَّ أَمَدُ غيبتِه، فَحَوَّل بواطنَهم الى بساتين مُكتظة بكافة أنواع أشجار المحبة، والتي أينعت ما هبَّ ودبَّ من ثمار الصبر وفواكه الإحتساب عند الله، وورود الأمل وأزهار الدعاء، مُتَرَقِّبين ساعة المشيئة الإلهية لإطلاق سراح صاحب هذه البساتين كي يَحُطَّ رِحالَه فيها ويسقيها بيديه المباركتَيْن تمهيداً لقطفها، فتغدو جنوداً بين كَفَّيْه ورهن إشارته، يُوَجِّهُها كيفما شاء لِتنتج عسلاً في شهده، يرمي بِحلاوته على سائر أصقاع الأرض فتأتيه طوعاً رافعةً رايات الإنقياد وصادحةً بحناجر التلبية: "لبيك يا صاحب الزمان".
وفي ظلال هذه المناسبة المباركة، ولادة إمامنا "المهدي" المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) [15 شعبان]، لا بأس بأن نحومَ قليلاً حول عبارة رائعة في زيارة صاحب الزمان (عليه السلام) في يومه وهو يوم الجمعة، حيث نسلم عليه (عليه السلام) - في الزيارة المذكورة - بعبارة "السلام عليك يا عين الحياة". من المعلوم في عالم العشاق وتعابير المحبين، أن يُنادَى الحبيب بما هو عزيز وغالي على قلب المُنادِي، فتارةً يُعبِّر عنه بِ"قلبي"، وأخرى بِ"عيوني"، "عُمري"، "حياتي"، وكلها تشترك في أنها عناصر غالية وعوامل ثمينة يحرص أحدنا على عدم التفريط بها والحفاظ عليها وتأمين الحماية اللازمة لها. ومن الواضح، أن عنصر "الحياة" هو عامل جوهري وركن أساسي لوجود الإنسان، فلو سلبه الله عز وجل هذه الهبة، ينعدم الوجود الظاهري للإنسان، ويتبعه ذلك انعدام باقي الجوارح الحسية الأخرى. وعليه، أن يصف أحدنا طرفاً آخر بأنه "حياتُه"، فهذا إن دَلَّ على شيء، فإنه يُظهِر المكانة العظيمة والمرتبة السامية للموصوف عند الواصف، بحيث يصبح وجود الأخير مُناطاً بحضور المعشوق وتواجده وعدم غيابه، لأنَّ غيابه سيؤدي - حُكْماً - لاضمحلال العاشق وذَوَبانه وتَبَخُّرِه.
وبالابتعاد عن مغردات الحب، نقتحم ميدان اللغة، لِنَجِد أنَّ "عَيْنَ" الشيء هو "ذاتُه ونفسُه". فتارةً، مثلاً، تخاطب الطرف الآخر بقولك "أنت الشجاعة"، وأخرى تخاطبه "أنت عين الشجاعة"، ومن الواضح أنَّ التعبيرَيْن يشتركان ليس فقط في إظهار صفة الشجاعة في المُخاطَب، بل بالإضاءة أيضاً على مستوى عالي جداً لهذه الصفة في الشخص المعني، بل وإنه في قمة تحليه بهذه الصفة، وأنه وصل لأرقى مرتبة انتحالية ممكن أن يصل إليها أيُّ ساعٍ في هذا المضمار. إلا أنه لا يخفى على أي متأمل، أنَّ التوصيف الثاني "أكثرُ فخامَةً"، و"أعمقُ تعبيراً" و"أصْوَبُ توجيهاً" و"أدَقُّ ﺇصابةً" في التسليط على عِظَم المنزلة التي يتمتع بها الموصوف بالنسبة للصفة المعنية في التعبير.
بعد هذا التغريد الحَوَمانِيّ، نعود ونهبط على مركب التأمل بهذا السَّلام المذهل، والكيفية الرائعة والصيغة المُعبِّرة في خطابنا لإمام زماننا، "السلام عليك يا عين الحياة"، وَيْكَأنَّ قِوام الحياة هو بالوجود المبارك للإمام، وأن لا استمرارية للحياة ولا ديمومة لشتى مكوناتها ومختلف تشعباتها دون حضوره الشريف. فقد ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): (لو أنّ الإمام رُفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها، كما يموج البحر بأهله) [يُراجَع "الكافي" (كتاب الحجة)]. وروي عنه (عليه السلام) أنّه قال: (لو بقيت الأرض يوماً واحد بلا إمام لساخت الأرض بأهلها، ولعذّبهم الله بأشدّ عذابه.. إنّ الله تبارك وتعالى جعلنا حجّة في أرضه وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لن يزالوا بأمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يهلكهم ثمّ لا يمهلهم ولا ينظرهم، ذهب بنا من بينهم ورفعنا إليه، ثمّ يفعل الله تعالى بهم ما شاء وأحبّ) [يُراجَع "ﺇكمال الدين وﺇتمام النعمة" / الباب الحادي والعشرون].
وللإنسان المؤمن والعاشق الموالي إنغماسٌ خاص في هذا المعنى الوجودي، فعليه الإهتمام بهذا الحبل الحياتي الذي يربطه بإمام زمانه، ويُضفي على هذه العلاقة نكهةً خاصةً، ويُكَلِّلُها برونقٍ نوعيّ، بل ينبغي المحاولة للوصول الى مرحلة "ديمومة الاتصال" بصاحب العصر والزمان (عج). ونستطيع في البَيْن استحضار غير إشارةٍ لتقوية العلاقة وتمتين الارتباط بإمام زماننا:
أولاً، وكمقدمة تمهيدية لتوطيد العلاقة مع الإمام واقتحام الباحة المهدوية، علينا الإلتزام بأوامر الله تعالى وتعاليم شريعته، والمتمثل بالقيام بالواجبات والإنتهاء عن المحرمات.
ثانياً، إهداء ثواب أعمال مستحبة الى إمامنا (عج)، من صلواتٍ وصيامٍ وتصدقٍ وغيرها. كما والقيام بها بنية تعجيل فرجه الشريف وتفريج همومه وتنفيس كروبه.
ثالثاً، القيام بأعمال مستحبة، لا سيما زيارات أهل البيت (عليهم السلام) وزيارة المولى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، نيابةً عن إمام زماننا (عج).
رابعاً، زيارته (عليه السلام) في يومه وهو يوم الجمعة بالزيارة المخصوصة (يُراجَع كتاب مفاتيح الجنان لتحصيلها)، وزيارته - بشكل يومي إن أمكن - بالزيارة المعروفة بزيارة "آل يس" وتلاوة الدعاء الذي بعدها (يُراجَع نفس المصدر - المذكور آنفاً - لتحصيلهما).
خامساً، الاستحضار الدائم أننا في زمن الغيبة، في زمن الغُمَّة المتمثل بغيابه (عليه السلام)، وأن المشهد يبقى ناقصاً دون حضوره المبارك، ولن تكتمل الأمور قبل ظهوره الشريف.
سادساً، الدعاء المكثف لظهوره، ولكي نُجعَل من أنصاره وأعوانه والذابّين عنه والمستشهدين بين يديه الطاهرتَيْن. واستغلال - لهذا الغرض - كل محطة دعائية ومواضع تضرعية ووقفات تأملية (أعقاب الفرائض اليومية، بعد مجالس العزاء وعموم مجالس ذكر الله تعالى وأهل البيت (عليهم السلام)، قبل الإفطار في حال الصوم وغيرها).
سابعاً، قراءة دعاء العهد صبيحة كل يوم، دعاء الندبة صبيحة الأعياد الأربعة (يوم الجمعة، عيد الفطر، عيد الأضحى وعيد الغدير)، ودعاء زمن الغيبة (يُراجع كتاب مفاتيح الجنان لتحصيلها).
ثامناً، التكلم مع الإمام (عليه السلام) ومخاطبته والفضفضة الكلامية له عند الضيق والمرور بأوقات عصيبة، وإن كان غائباً عن أبصارنا الظاهرية، إلا أنه (سلام الله عليه) حَيٌّ حاضرٌ يسمع كلامَنا وتصله شكوانا إن شاء الله تعالى.
وفي الختام، مُبارك لجميع المسلمين هذه الولادة الميمونة لصاحب العصر والزمان (روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء)، ونسأل الله تعالى بلسان إمام زماننا (عج)، هذا اللسان المبارك الذي لم يعصي الله تعالى، والمعصوم عن الزلل والخطأ، أن يُعجِّل في ظهوره الشريف، وأن يجعلنا من أنصاره والمستشهدين بين يديه. فظهوره المبارك هو فرجٌ للجميع، وتنفيس لِكُرَب جميع مستضعفي العالم، فهل سَيَمُنُّ الله علينا ونُكَحِّل أعيننا بطلعته الغرّاء؟ وقبل ذلك، هل أعددنا أنفسنا وأصبحنا مؤهلين لهذا اللقاء المهدوي الفريد والنوعي؟
"ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" .
أبو تراب كرار العاملي