نصري الصايغ
خذ قلمك واكتب عن السيد حسن نصر الله..
قلت: لا يطيعني قلمي، لا يملك شهادة حسن سلوك، سيرته الذاتية مشوشة وشائكة ومتعرجة.. ثم قلت: لا، لا يستطيع قلمي أن يكتب عن السيد..
خذ قلمك واكتب عن السيد حسن نصر الله..
وألححت عليّ.. حاولت الاعتذار، تشبثت بتنفيذ الأمر، وطلبت من قلمي أن يمتثل لي، ويسجل حروفاً ناصعة عن السيد.
قمت اليه وسألته الحبر والحرف والكلام، فاعتذر.
قال: لا أستحق هذا القصاص، لا أستحق هذا العذاب، أنا قلم سهل، قصير القامة، وذو سيرة متواضعة وأحياناً وضيعة. اعتدت على التعامل مع رجال بقامتي كقلم لا أكثر ولا أقل، فكيف لي أن أحيط بالمحيط؟! كيف لي أن أرصد رجلاً بقامة قضية تختصر التاريخ والحقيقة والدم والسماء؟ كيف لي أن أجرؤ على تناول أمة في رجل، ولا أملك في جعبتي إلا أبجدية، مهما تزاوجت حروفها ظلت فقيرة ازاء قاموسه الفذ، الذي كل كلماته جديدة عليّ.
اعذرني، أنا قلم متورط في الكتابة عن العادي والسهل والتعاطي مع أحداث وتطورات تلفظ أنفاسها بين حروفي، لست معتاداً على الصعب والفرادة والصدق.. ليس بين كلماتي الوافرة ما أصف به السيد. هل أقول إنه رجل؟ هل أسميه البطل؟ هل أطلق عليه ألقاباً وأزينه بالنياشين؟ هل ألحقه بقافلة الأصنام المبجلين؟
لا.. ليس عندي لغة لألبس هذه القامة نصاً يليق بظله.. فكيف به؟
قلت لقلمي: اكتب، حاول، اجترح، غامر، تجرأ، كن شجاعاً.. كن.. كن.. لا تكن خائباً.
قال: لن أحاول، حبري عادي، وكلامه من صنف الإعجاز.. اسمعه..
فهو يخرج عنف المقاومة بلين المصافحة والمداعبة، يلتقط خطوط التاريخ الكبرى، ويضيف اليها يقظة معرفة التفاصيل الصغيرة.. اسمعه مرة أخرى، نكون بانتظار الكارثة، فيبشرنا بالخلاص ونصدقه، لأنه صادق أكثر من اللزوم. حتى الأعداء يصدقونه.. ويقال إنهم لا يصدقون سواه منّا.
اسمعه مراراً، تكون في حال ارتباك، فيرسم بيديه وعينيه وإطلالة كلامه بوصلة الأيام القادمة.. لا يأمر فيطاع، لا يطلب فيأخذ، لا يتكلم فيتهمون، لا يظهر فيرون.. إنه الإعجاز يا رجل.. وأنا قلم من بضاعة أيام الأسبوع.. أعرف نهار الاثنين وأنتقل الى الآحاد مروراً بتراتب النهارات والليالي. أنا من صنف الحسابات الصغيرة. لا.. لا أستطيع ملامسة أطرافه، فكيف أصل الى عمق رجل ابتسم راضياً بشهادة ابنه.. لم أصدقه وصدّقته.. قلت ابتسم باكياً، أو بكى مبتسماً. هل هذا كلام كافٍ؟ لا.. إنه كلام عادي، المعجزة احتضان الحزن والفرح معاً، لالتقاء الوداع بذراعين مكلومين يوزعان العزاء في عرس الشهادة.
أنا قلم متواطئ جداً مع السهولة واليسر، فلا تطلب مني ابتداع نبوءة للجمل والكلمات، فهذا رجل من صنف مفرد، لا صنف له أبداً.. عرفت وكتبت عمن سبقه هنا وهناك.. كتبت عن رجال عرب وعن رجال غربيين.. أجدت أحياناً، وأصبت أحياناً، وتخلفت مراراً، إلا أنني إزاء هذا "السيد" أود لو أطلق الحبر، وأجد خزانة لكلماته ومواقفه.
لا يمكن لأحد أن يقنعني بتناول ما يمثله إلا بكلام عادي.. خذ مثلاً هذا النص:
أمس، في ساحة رياض الصلح، ظل الحشد يتيماً الى أن سمع المحتشدون همساً بقدومه، فاختصروا تعددهم وتوحدوا.. كانت قبائل الكلام تتصيد أخطاء سوريا في لبنان، فغسلها وأعطى للعلاقة بين البلدين بعداً جديداً لم نعرفه بين الشعبين، فإذا اختلفنا في السياسة فلن تفرقنا الأخطاء.. فلتسقط الأخطاء ولتحاسب.. غيره ينتقم، هو يصحح ويصوب، ويعيد بوصلة الاتجاه الى علاقة الشعبين، وإلى صلابة القضية.
أمس في ساحة رياض الصلح، لم يقل كلاماً، رسم مساراً وحدد مصيراً.. نريد الحقيقة الكاملة.. من قتل الحريري؟ من حاول قتل لبنان؟ من خطط؟ من نفذ؟ من قرر؟ من؟ نريد الحقيقة.. ونريدها لنفسها أولاً، وللبنان ثانياً، فهذا الاغتيال ليس للتجارة، بل للاعتبار، لإنقاذ لبنان من الفتنة، من كوابيس الحروب الداخلية.
أمس في ساحة المليون، قال السيد: لبنان لا يشبه إلا لبنان، لأنه لبنان المنتصر على الاحتلال، العاصي على التقسيم، القوي بإرادة شعبه، كل شعبه. لأنه لبنان المحتضن كل هذا التنوع البديع، بشرط أن لا يصبح التنوع مسيّجاً بالعداء الداخلي والنيات المظلمة.
قال كلاماً سمعته "اسرائيل": فلتنتحر أحلامها: أو سننحرها.
قال كلاماً معاتباً لشيراك: كن صديق كل اللبنانيين، أحبّهم جميعاً، فها هم أمامك، استقلّ عن أميركا والقرار 1559.
قال لأميركا: لبنان ليس غرفة داخلية في البيت الأبيض، ليس حديقة للكونغرس الأميركي، ليس ممراً لوزارة البنتاغون.. لبنان مقيم جغرافياً عند شعبه، وقريب جداً من قلب فلسطين، وقريب أيضاً من قلب دمشق.
اسمعني يا رجل، أمس كانوا مليوناً في بيروت، وملايين منتشرة في العالم تنظر الى رجل سياسي بامتياز ملم بالتفاصيل الدقيقة والخيوط غير المرئية، وتنبه لمسيرة العالم.. كأنه يقرأ العالم في كتاب أمامه.
ترى رجلاً مقاوماً صلباً.. ترى قائداً يحتضن بصدقه الملايين العاجزة إلا عن احتضانه بالصوت: "يا الله احفظ لنا نصر الله"، كأنهم اذا جلجل الصوت في السماء، حفظت المقاومة والقضية وارتاحت فلسطين الى قيامتها. نرى رجل دين تحبه الأديان في بلد يتربى فيه الناس على الخوف والتخويف.. نرى رجل إعلام يذهب كلامه الى العقول والقلوب معاً. يحار محبوه كيف يفسرونه، بقلوبهم أم بعقولهم؟ فيحارون أيهما أقرب اليه! أما مخاصموه فيحارون بين قلوب لا تودّه وعقول تحترمه.
فكيف أكتب عن رجل لا يشبهه إلا أولياء لم أتعرف اليهم بعد، وما تعرفت الى أحد منهم من قبل؟
لا تضطهدني أكثر.. قلت لك إني قلم مستنزف في مواقع كنت أظنها حقيقية، وفي مواقف كنت أنتمي اليها من رؤوس الشفاه.. هنا، مع هذا الرجل، تشعر بأن السياسة صلاة، وبأن المقاومة إبداع، وبأن المواقف صدق، وبأن الكلام يخرج من "فم الذهب"، أما كان القديس يوحنا الدمشقي صاحب هذا اللقب؟
انظر الى عبوسه المحيط بعينين من فرح وإطلالة من ابتسام، انظر الى يد تقرع الهواء، فيرتج النبض فينا ويختلج المكان، اسمعه يا رجل، إن صوته عميق جداً، كأنه آيات من الأرض، تباركها آيات السماء.
إنني أفضل الكسل على حفاوة الاقتراب منه.. دع لغيري أن يرسم له صورة بالكلمات، فأنا عاجز، وما أقوله الآن برهان على أنني من رتبة مبتدئة في الكتابة، ولا طاقة لي على اختراع لغة بمقامه وقامته.
أمس، هدد الأعداء، حاور الشركاء، أحب الأصدقاء، طمأن الفرقاء.. نحن لسنا سلاح فتنة.. نحن لسنا ميليشيا.. نحن لسنا طلاب سلطة.. نحن طلاب للشهادة، وشهداء عند ربّهم وشعوبهم يُرزقون. قال: إن شئتم عدداً فهذا عديدنا، وإن شئتم حواراً فهذه أيادينا، وإن شئتم لقاءً فلبنان ساحتنا.. فنحن لبنانيون، نوعيتنا لبنانية، هويتنا لبنانية، علمنا لبناني، ونريد لبنان سيداً حراً مستقلاً.. وخصوصاً عن الـ1559، وعن أميركا.
الطائفيون يرونه طائفياً.. وأنا أراه شيعياً على سنّة الرسول والأنبياء والقادة والقيم والكرامة والإنسانية، ينطق بكلام محمد وكلام عيسى المسيح، وكلام الناس الطيبين الفقراء والضعفاء و"المخزقي الثياب"، ينطق باسمهم جميعاً، فله منه شيعيته، ولنا فيه امتلاؤه بنعمة الله والناس الذين ما تفرقوا.
هل أعجبك هذا النص العادي؟
رجاءً.. اعفني من الكتابة عن السيد حسن نصر الله.. أنا قلم يودّ لو يفرغ من حبره وقاموسه، ويهتدي الى الصراط المستقيم، الممتد من بؤبؤ القلب الى عشق التراب، وامتداد الأفق الفلسطيني الذي يملأ القارات الخمس.
أودّ لو نهتدي يا رجل الى قلم آخر، ينطق حباً لشعبه وأرضه، ويصوّب رصاصاً على أعدائه، فلدى السيد حسن نصر الله وحده هذا التنوع من الأقلام الفريدة.
(*) مقالات من ذاكرة "الانتقاد"