محمود ريا
سكتت الأصوات.. ساد الهمس.. هناك خبر.
يا إلهي.. وأيّ خبر؟
ساعد الله قلبك سيّدي.. كيف ستتحمل؟
ما هذه الصدفة؟ عنده إطلالة اليوم.. وهو بهذا الوضع، فكيف سيطل؟
ماذا سيقول، لا بل بأي طاقة سيتمكن من الوقوف أمام الناس؟
لا لا.. يجب أن يعتذر، لا بدّ من أن ينوب عنه أحد في إلقاء هذه الخطبة، وإلا.. كيف سيستطيع أن يتحدث عن الشهداء، وهو في خضم هذا الخبر، بل هذا الحدث الجلل؟
وانتظر الناس.. بتلهّف انتظروا تلك اللحظة، وكأن على رؤوسهم الطير.
العيون والآذان، وكل الحواس على أتم الأهبة.. وبلغت القلوب الحناجر.
وأطلّ
في ذلك اليوم كان للإطلالة عنوان آخر، وتأثير آخر..
المحبون انهاروا بالبكاء، والمبغضون كذلك..
كيف لأب أن يقف، بُعيد ساعات على استشهاد ولده، وأسر الجثمان، منتصب القامة، ثابت الجنان، صافي الذهن، ليتحدث في مواضيع عديدة: في ذكرى مجزرة 13 أيلول 1993، التي أقيم الاحتفال من أجل إحيائها، وفي قضايا القدس وفلسطين، ومن ثم عن نصر انصارية الذي كان قد تحقق قبل أيام، ليعود بعد ذلك للحديث عن الحدث الذي ينتظر الجميع كلامه عنه.
المحبون أشفقوا.. والمبغضون كانوا ينتظرون الانهيار..
المحبون يعدّون الثواني، يسندون سيّدهم بعيونهم وقلوبهم.. والمبغضون يعدّون الثواني أيضاً.. يصبون جام غضبهم على هذا الطود الذي لم يندكّ بعد.
وبقي الطود شامخاً.. وجاءت لحظة الحقيقة..
بقامة منتصبة، وصوت جهوري، وقف ليتحدث عن شهادة ولده البطل المجاهد، فقال إن هادي هو اختار طريقه، وإن العدو لم يحقق نصراً بقتله لهذا المجاهد الذي ذهب بنفسه إلى المواجهة، فلم يُقتل في شوارع الضاحية، وإنما على الجبهة.
وفي ذروة هذا الحديث الذي شدّ الأسماع والأنظار والقلوب، كانت العبارة التي سيخلّدها التاريخ:
"أني أشكر الله على عظيم نعمه أن تطلّع ونظر نظرة كريمة إلى عائلتي فاختار منها شهيداً وقبلني وعائلتي أعضاء في الجمع المبارك المقدس لعوائل الشهداء الذين كنت عندما أزورهم أخجل أمام أب الشهيد وأم الشهيد وزوجة الشهيد، وسأبقى أخجل أمام هؤلاء".
كان الكل ينتظر، هل ستظهر لحظة ضعف، هل سيكون هناك مشهد انكسار؟
الشهيد السيد هادي حسن نصر الله
وكانت الصدمة: ثبات وعنفوان وانتصاب قامة.
وبكى الجمع، بكوا له وعنه، فإن لم تنزل دمعته نكايةً بالعدو، فقد انهمرت شلالات من الدموع من عيون المحبين. لا لم تكن دموع ضعف، بل هي دموع اعتزاز بهذا القائد الذي رفع الرؤوس، والذي جعل من لحظة مفصلية، كهذه اللحظة، محطة انتصار جديدة للمقاومة ولشعبها، تماماً كالانتصارات الأخرى التي كان المقاومون قد سجلوها فيما سبق من الأيام، والتي عادوا لتسجيلها فيما تلا كذلك. لقد حملت هذه الوقفة البطولية من العزة والكرامة ما تسيل له عيون الكرام.
وكان هناك دموع أيضاً، ولكن من نوع آخر..
هي دموع قهر، وحنق، وحقد.. دموع اندحار أمام صلابة هذا الرجل، الذي تلين الجبال ولا يلين، وتتفتت الصخور الصمّ ولا تتفتّت إرادته، والذي تضمحل أمام عزمه كل العزائم، وتخور تحت عصف قوته كل القوى.
لقد حقدوا عليه، يوم ذاك، وقد كانوا حاقدين من قبل، وازدادوا حقداً فيما بعد.
ولكن حقدهم انقلب سمّاً ينهش أجسادهم، ولم يضرّه في شيء، فبقي حيث هو، على مبادئه هو، يحمل أفكاره هو، فلا ييأس ولا يستسلم، ولا يهوي أمام مصيبة فقدان ابن، أو حتى فقدان أخ كبير، كالقائد العماد، بعد ذلك بأعوام.
لقد أعلن السيد حسن نصر الله في ذلك اليوم انضمامه إلى سربه، سرب عوائل الشهداء، الذين لطالما وقف إلى جانبهم يواسيهم، فإذا بالأمة تقف معه في ذلك اليوم، لتقول له:
أنت صرت في السرب، لا بل أنت قائد الركب، والمتقدّم في كل حين.. وكل ذلك ببركة العبادة، وبركة القيادة، وبركة الشهادة.