ما الذّي يشدّك للرجوع الى بلدك إذا ما هُجّرت قصراً عنها لمدّة عشرين عاماً؟ وماذا ستمثّل إليك العودة؟
انتصارٌ على ألم البُعد القصري الإكراهي، أم رغبةٌ في إكمال فنجان قهوة الصّباح على أريكةٍ ابتعتها بعرق الجبين، أمام نافذةٍ رسمت عليها أوراق أيامك المتطايرة؟
ما هي فلسطين؟ سؤالٌ بحجم قضيّةٍ تجاوز عمرها الخمسين. وهو سؤالٌ متشّعبٌ بعدد نبضات الأيام البسيطة لكلِّ فلسطينيٍّ أجبره الاجتياح والاحتلال على مغادرة ذاته فجأةً ذاتَ يوم.
وفي رواية "عائد الى حيفا"، للكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني، فلسطين أكبر من مجموعة ذكريات، ومبدأ العودة الى الدّيار القديمة في حيفا المحتلة منذ عشرين عامًا، خاطئ، إذ لا يجب أن تقتصر الأهداف على استراق النّظر الى أمتعةٍ ما عادت لنا، فالعودة يجب أن تُقرن بالحرب والنّصر، كما يستخلص بطل الرواية "سعيد س".
لم تقتصر قصّة "سعيد س"، على تهجيره من حيفا، وتركه بيته، وأغراضه البسيطة الغالية على قلبه، لأنّه عندما اجتاح الإنكليز واليهود حيفا، ودفعوا النّاس ناحية الطّريق البحري والمرفأ، لم يكن أستاذ المدرسة الشّاب (سعيد) في المنزل، ما اضطرّ زوجته "صفيّة" الى ترك منزلها للبحث عنه وإبلاغه بما يجري.
في هذه الأثناء، كان "خلدون"، طفلهما، نائماً في سريره، ولم يخطر ببال أمّه صفيّة أن تأخذه معها للبحث عن والده، خوفاً من أن يستيقظ، وهي تظنّ أنّها ستتركه لدقائق معدودةٍ لا أكثر.
لكنّها وجدت نفسها وسط بحرٍ متماوجٍ من البشر، تسأل الجميع عن سعيد دون أن تحصل على إجابة، وبدوره كان يدافع الحشود، التي تزحف جميعها نحو المرفأ بخطّة محكمةٍ من اليهود والإنكليز، للوصول الى بيته وعائلته، دون أن يتمكّن من ذلك.
هكذا، التقى سعيد بصفية وسط الحشود، وعندما سألها عن "خلدون" أجابت بصراخٍ أنها لم تتمكّن من العودة الى بيتها بسبب الحشود، وعندما أراد هو الرّجوع لإحضار ابنه، وجد أن الإنكليز وحلفاءهم كانوا قد احتلّوا الحيّ بمجرّد طرد الفلسطنيين منه.
ولم يرد سعيد وصفية ترك حيفا، وسعيا عبر مندوبةٍ لحقوق الإنسان الى استعادة ولدهما، بيد أنّ اليهود كانوا قد أخذوه، كما أخذوا البيت والأرض.
ويصير "خلدون" قضيّةً، مثل فلسطين، مثل سريره الخشبي، مثل ريشات الطاووس السبع التي وضعها سعيد في مزهرية على طاولته في غرفة الصالون، مثل صورة الفتى الشهيد المعلّقة في بيت جيرانه، تؤنس غياب الابن عن مائدة أهله بعد أن استشهد قنصاً، مثل الإنسان الذي أُخرِج من حياته قصراً..
تبدأ الرّواية بمشهد رجوع سعيد الى حيفا بعد عشرين عامًا حين وصل إلى مشارف المدينة، قادما إليها بسيارته عن طريق القدس، وشعر بأنّ المدينة التي يعرفها جيداً تنكره، فلم يتكلّم، بل قال لنفسه إن "صفية " زوجته ، تحس الشيء ذاته، وأنها لذلك تبكي.
ويصف الكاتب تفاصيل المدينة التي ما زالت كما هي مذ غادروها، بيد أنّهم لم يتوقّعوا العودة بهذه الهزيمة، بعد أن فُتحت الطرق من قبل اليهود للعرب، ولم يفتحها العرب بأنفسهم.
"-أتعرفين؟ طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم …ولكن أبدا أبدا لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى . لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك فحين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعبا وسخيفا والى حد كبير مهينا تماما … قد أكون مجنونا لو قلت لك إن كل الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة، وإنها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزا ، ولكن تلك هي الحقيقة ."
وتتداخل مشاعر السرد والوصف، بين استذكار ما حدث قبل عشرين عاماً، وبين ما يحدث الآن، وكأنّ الزمن ستارة ما عادت تفصل بين النوافذ وما يحيط بها، وبين الماضي والحاضر.
ويصل سعيد الى منزله، حيث كانت أيامه مع صفية، وحيث تركا "خلدون" طفلا لا يتجاوز عمره الخمسة شهور، وحيث ينتظران بالعاطفة والعقل الباطن أن يجداه، ينتظرهما!
- انظر يا سعيد، غيّروا الجرس..
- والاسم طبعاً..
وما كانت إلا لحظات، حتى فتحت الباب امرأةٌ عجوز، ودخلا.
في البيت الذي كان يعرفهما الكثير من التفاصيل، أخذا يتأملانها شيئا فشيئا، في حضور امرأة يهودية كانت تنتظر عودتهما، وصارت تراقبهما عن كثب.
وهي مذ أصبحت أم ابنهما الذي سمّته "دوف"، صارت تخاف من ذاك اللقاء، وتنتظره لتعرف إن كان "خلدون" أو "دوف" سيتركها أو يبقى معها، بعد أن يرى والديه الحقيقيين.
و"مريام" هي امرأة يهودية، جاؤوا بها من الدانمرك الى فلسطين عنوةً، وأقنعوها بأن تبقى لتسكن بيتاً جميلا في حيفا، هو بيت سعيد وصفية.
وبعد أن عرفوا بعقمها وعدم قدرتها على الإنجاب، عرضوا عليها أن تتبنى طفلاً عربياً تركه أهله عندما هربوا، كي يُنسوها مناظر الأطفال العرب الذين رأتهم يُرمون في شاحنة نقل الجثث كأنهم قطعٌ من الخشب.
ولم يطل الأمر، وسعيد يتفحّص أمتعة المنزل التي بقي منها ما بقي وتغيّر ما تغيّر، وهو يضبط أعصابه خوفاً من الانفجار غضباً في وجه امرأةٍ ليس ذنبها ما جرى عليه، وذنبها، في الوقت عينه، حتى أطلّ الطفل الذي أصبح شابّاً،"دوف" الذي كان "خلدون"، وسلّم على أمّه اليهودية باللغة العبرية، ونظر اليها يسألها عن الغريبين الجالسين في منزله!