جلال شريم
يأتيك صوت من الزنزانة المحاذية، يناديك باسمك مع ضحكة خافتة، ويسألك عن كيفية تأقلمك مع الصيام كون هذا "رمضانك" الاول في المعتقل.
تجيبه بضحكة أكبر: "إنكم لمحسودون هنا...عندما أخرج من المعتقل سآتي كل سنة كي أصوم عندكم. هنا الاجواء مناسبة للصوم وللتفرغ للعبادة...وللنوم"!!
تعلو الضحكات في الزنزانتين المتجاورتين والزنازين المحاذية...ولا يقطعها الا صوت سجّان غليظ يغيظه هذا الفرح من معتقلين اعتقد أن القضبان كفيلة بالقضاء على عزيمتهم وعلى صمودهم وفرحهم الذي يكتنف بين ثناياه سر انتصار الارادة على القيود.
يبدأ الصيام في الزنزانة قبيل حلول شهر رمضان رسمياً بأيام عدة اذ تسرّعه عتمة السجن والعزلة عن العالم الخارجي ما يجعل اثبات هلال اوله مهمة مستعصية فكان "الاستباق" أول الدواء وأحسنه.
تمر عادة ايام المعتقل العادية برتابة مملة وروتين قاتل، ولكن في شهر رمضان تتغير المعادلة وتدب روح جديدة بين الجدران الضيقة، ويكاد ينقلب الليل نهاراً والنهار ليلاً.
الغالبية الساحقة من المعتقلين تصوم. ولكن نظام توزيع الطعام اليومي لا يتغير!! هو خاضع لمزاجية السجان ولنظامه العسكري. لذلك كان المعتقلون يحتفظون بالطعام الموزع حتى المساء لتناول جزء منه عند الافطار وجزء آخر يحتفظون به كوجبة للسحور. ولكن ماذا يفعلون بكوب الشاي الاثير لديهم الذي يجري توزيعه عند الصباح؟
كان للارادة الذكية دور هنا. في البداية كان المعتقلون يضعون كمية الشاي الموزعة على الزنزانة في علبة حلاوة فارغة ثم يحكمون اغلاقها ويطمرونها بعدد من الاغطية والحرامات حتى تحافظ على شيء من سخونتها حتى مجيء موعد الافطار.
لاحقاً خاط المعتقلون غطاءً محكماً لبعض القناني الفارغة وحولوها الى ما يشبه "الترمس" لتحافظ على سخونة الشاي وبرودة الماء لفترات طويلة نسبياً.
في الايام العادية كان عدد كبير من المعتقلين يستغرقون وقتهم في قضاء الصلاة والصوم.
وفي السنين الاولى من عمر المعتقل كانت ظروف الاعتقال غاية في السوء، وكمية الطعام الموزعة قليلة جداً فكان المعتقلون يحسبون أيامهم صياماً متواصلاً. لاحقاً مع الاضرابات المتعددة التي نفذها المعتقلون والتحركات التي قامت في الخارج تحسن الوضع نسبياً وزادت كمية الطعام وتحسن نوعه.
غالباً ما كان المعتقلون يقضون ليلهم بتلاوة القرآن وقراءة الادعية الخاصة بالشهر الفضيل ولا سيما دعاء الاقتتاح. وخلال تلك اللحظات كانت السكينة تلقي بثقلها في الفضاءات الضيقة بين الزنازين وتسمح للصوت الشجي المثقل بمعاني الدعاء السامية بالتسلل زارعاً الامل والتعلق بالقدرة الالهية اللامتناهية أمام جبروت السجن وظلم السجان.
وفي جوف الليل تسري في تلك الفضاءات همهمات صلاة الليل النابعة من جوف كل زنزانة، وتليها آيات القرآن وبعدها صلاة الصبح...ثم خلود الى النوم والراحة.
وبين هذه وتلك كانت تقام حلقات التعليم والتحفيظ المتبادل للادعية والسور القرآنية. ونتج من ذلك ان "تخرّج" من المعتقل عدد ممن يحفظون القرآن الكريم عن ظهر قلب.
في بعض الاحيان كان السجانون يقومون ببعض اللفتات نحو المعتقلين وخاصة في حال السعي الى ازالة آثار توتر سابق او قرب الافراج عن عدد من المعتقلين وخاصة مع حلول عيد الفطر، فكانوا يزيدون كمية الطعام ويوزعونه في غير وقته المعتاد تماشياً مع حاجات الصائمين. واحياناً كانوا يوزعون الشاي عند المساء. وفي النهار أحياناً كان يجول شرطي بين الزنازين يسأل المعتقلين عمن يريد منهم "الاستحمام للتطهر"!!
ورغم القيود وشدة وطأة انسلاخ المعتقلين عن بيوتهم، وبُعْدهم عن البيئة التي اعتادوها واعتادوا الصيام فيها بوجود الامهات اللاتي كنّ يؤمّنّ وجبات الافطار المعهودة الا أنهم لم يستسلموا محاولين "رأب الصدع" فكان صحن الفتوش هدفهم ومنيتهم في أجواء الصوم، ولكن انّى لهم ذلك؟؟
تفتقت عبقريتهم ورغبتهم عبر صحن السلطة الذي يُوزَّع أحياناً مع الطعام فصاروا يضيفون اليه بعض كسرات الخبز التي قاموا بتجفيفها مسبقاً فغدا ذلك صحن فتوشهم الذي يقاوم واقعهم ويعيد اليهم ذكرياتهم. وبعد التداول أطلقوا على صحنهم هذا اسم "دَنْكُوش" المستوحى من الاسم الاصلي للطبق المعروف!!
كانت تكبيرات العيد التي تنبعث، عند صبيحة أحد الايام المتوقعة، من مسجد بلدة الخيام اشارة اثبات هلال شهر شوال وبالتالي اعلان "عيد الفطر السعيد" داخل الزنازين الضيقة لهذا المعتقل المظلم والظالم وتسري التهاني بين المعتقلين ممزوجة بفرحة تلوح منها الف غصة وغصة.