عدي عبد الإمام مصطفى
العودة إلى "حولا" في ذلك النهار الربيعي في الثاني والعشرين من أيار عام 2000 كانت بمثابة الولادة الأولى.. ما مضى من سنين تحت الاحتلال انتهى في لحظات.. في كل خطوة خطوتها في ذلك اليوم على طريق العودة بعد غيابٍ قسريّ، كان المشهد يرتسم في مخيلتي بتفاصيله الملونة هذه المرة بعد أن خيّمت غيوم الاحتلال السوداء على الجنوب سنوات طويلة.
لذلك اليوم المفصلي في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي ما قبله من احتلال ومعاناة وممارسات واعتقالات وتضييق وعملاء كانوا يقفون خلف شبابيك منازلنا كخفافيش الليل، مجندين لجعل حياتنا جحيماً، قبل أن يفروا مذعورين يعميهم وهج انتصارنا.
لذلك اليوم ما قبله من تحدٍ لإقامة مجالس عاشوراء وإحياء المناسبات الدينية وقراءة أدعية الافتتاح والسحر في شهر رمضان المبارك، وما قبله من جهاد ومقاومة وعمليات نوعية ضد الاحتلال وعملائه. كل هذا جعل ذكرى التحرير ذكرى أبديّة لا تفارق العقل والقلب في آن واحد.
كان مضى على آخر زيارة لي إلى حولا قرابة سبع سنوات بعد أن أصبح التردد إليها مصدر خطرٍ لكونه يمكن أن يتسبب في اعتقالي كما هو حال الكثير من الإخوة من أبناء الجنوب ممن أدركوا أن خيار المقاومة وحده قادر على استعادة الأرض.
مرغماً إذاً ابتعدت عن الأرض التي ولدت وترعرعت ونشأت فيها حتى العام 1987. في ذلك العام كان القرار الصعب جداً بالتوجه إلى بيروت لإكمال دراستي الجامعية. ولكن إلى جانب ما حملت من حاجيات، حملت حولا في قلبي وتنفست هواءها ملء رئتي بما يعينني على البقاء بعيداً عنها. بقي والداي في القرية وبقيت أزورهما باستمرار حتى كانت الزيارة الأخيرة ما قبل التحرير في العام 1993. يومها أُبلغت بقرار منع الذهاب إلى حولا: قرار أحسست أنه دمرني.
ما بين عامي 1993 و2000 كان يتآكلني الشوق ممزوجاً بالحنين إلى حيث صوت الحياة الأول. فكانت "شقرا" المطلّة على حولا مقصدي كما الكثير من الشبان الذين حالت ظروف الاحتلال وملاحقة العملاء لهم دون أن يزوروا قراهم. من بعيد كنت أسرح ناظري في الأفق، وصولاً إلى أبعد نقطة يمكن أن تلتقطها العين المجردة للقرية. ومن ذلك المكان كان شريط الذكريات يمر أمامي بتفاصيله كلها، الجميلة منها والنقية جمال ونقاء والديّ اللذين لم يتركا القرية يوماً إلا من أجل زيارتنا أنا وأخي في بيروت.. والبشعة بشاعة الاحتلال وأعوانه، ولعل أبرزها اعتقال أختي وصهري وأبناء عمومتي واقتيادهم إلى معتقل الخيام الذي كان شاهداً على أبشع أنواع التعذيب والممارسات بحق أبناء الجنوب والمقاومين.
قبل 15 يوماً من التحرير ضربت موعداً مع حولا من بعيد كالعادة. وقفت عند بركة "شقرا" وإلى جانبي أحد الإخوة من القرية. كان من المفترض أن يحصل الانسحاب في تموز. هل يمكن أن نرى حولا في تموز؟ كنا نتساءل طارق وأنا ونحن نراقب موقع العباد وهو يُفكّك.. ماذا لو قطعنا المسافة الفاصلة بين شقرا وحولا لبعض الوقت ثم عدنا أدراجنا؟ فكرت للوهلة الأولى قبل أن أدرك مدى خطورة المغامرة. لا بأس.. تموز لم يكن بعيداً. كان يفصلنا عنه أقل من ثلاثة شهور.
لم ندرك ذلك اليوم أننا كنا على مسافة أيام قليلة فقط من التحرير والانتصار. كنت جالساً مع شباب من القرية نرسم سيناريوهات وترتيبات العودة في تموز حين تلقينا اتصالاً من إمام البلدة الشيخ حسن نصر الله. قال لنا "أحدّثكم الآن من ساحة الطيبة" لم نصدق ما نسمع! شغّلنا التلفاز لسماع الأخبار التي كانت تقول إن المقاومة دخلت الطيبة.. تلك كانت بشارة التحرير الأولى.
سريعاً عقدنا اجتماعاً لنناقش ترتيبات العودة، متى وكيف. وضعنا خططاً لما بعد شهرين أو ثلاثة على اعتبار أن العودة لن تكون قبل ذلك. وزّعنا المهام بين تجهيز الرايات والأعلام والصوتيات. في تلك الجلسة رسمنا في أذهاننا صورة للقرية، أحصينا عدد أعمدة الإنارة لكي نقرر أين سنعلّق الصور ونرفع الرايات.. لكن التطورات كانت أسرع من أي خطّة.
طُلب منا أن نبقى جاهزين وفي حالة طوارئ. حاولنا في ذلك الوقت الضيّق أن نجهّز ما يمكن تجهيزه. وقد أنعم الله علينا وحظينا بصورة للإمام الخميني(قده) من ساحة "المريجة" لنصبها في ساحة حولا كعربون وفاء لهذا القائد العظيم... ومع تسارع التطورات توجّه طارق برفقة بعض الإخوة إلى "شقراء" لمتابعة الأحداث على الأرض مباشرة بناءً لطلب الإخوة المعنيين.
كان الليل قد انتصف حين وصلت إلى المنزل. ما إن وصلت حتى تلقيت اتصالاً. "جهّز حالك" - قال لي زياد - "سنذهب إلى حولا ويجب أن نكون في شقرا عند الفجر". نقطة التجمّع كانت في باحة عاشوراء أمام منزل السيد أبو عباس ياسين (المريجة). هناك صعدت كل مجموعة في سيارة بعد أن أيقظنا العدد الأكبر من الشباب استعداداً لتحرير حولا.
نعم أيقظنا الشباب لحاجتنا لهم في تلك اللحظات، ولكن الشوق إلى القرية أيقظ كبار السن أيضاً فكان الوالد يسبق ولده.. ولا زلت أذكر لقاءنا بالحاج موسى أحمد نصر الله وهو يسير في صيدا حيث كان قد سبقنا إلى هناك متجّهاً نحو حولا.
انطلقنا تباعاً ويمّمنا وجوهنا شطر تلك الأرض التي اشتاقت لنا بقدر اشتياقنا لها. فجراً وصلنا إلى بِركة شقرا. وشاء القدر أن نحظى ببركة الصلاة في منزل أحد الشهداء من آل "حب الله". السيارة من نوع فولفو ستايشن حمراء اللون التي كنت أستقلّها تقدّمت موكباً من مئات السيارات التي كان يوجد فيها أهالي الجنوب من مركبا وميس الجبل وقرى أخرى محاذية لحولا.
على الطريق بين شقرا وحولا كان الشعور غريباً. الصورة بعد خمسة عشر عاماً لا تزال حيّة وكأنها اليوم. كنت كمن يدخل الحياة للمرة الأولى رغم أن الاحتلال لم يترك حياةً في العشب والأغصان والأشجار التي امتدت على جانبي الطريق. في تلك الأثناء كانت المفاوضات جارية مع قوات اليونيفيل. كان الإسرائيلي لا يزال في موقع العباد. قصف طيرانه أطراف التجمعات.. لكن كأنه لم يكن. أدركت أن الزمن الذي كانت فيه طائرات الاحتلال تزرع الخوف في النفوس قد أصبح وراءنا منذ وقت بعيد. وكان مشهد الجنوبيين وهم يسابقون الخطى نحو قراهم ترجمة عملية لهذا الواقع الذي فرضته المقاومة.
عند الساعة التاسعة إلا خمس دقائق صباحاً كان القرار بالدخول. في البداية لم يسمح لنا عناصر اليونيفيل بذلك قبل أن يتدخل الجيش اللبناني وتُفتح البوابة بين شقرا وحولا. حينها حصل إطلاق نار من بعض المواقع الإسرائيلية والعملاء في تلك المنطقة، أُتبع بقصف الطيران للطريق التي كنا نسير عليها بكل تصميم وإرادة كما تلك الأشجار الشامخة والأعشاب المتمايلة المتجذرة في الأرض الفرحة بعودة أبنائها المرتوية بدماء شهدائها من يحيى قاسم إلى احمد فوعاني وغيرهما...
حين وصلنا كانت الحفرة التي أحدثها القصف في أول القرية كبيرة جدا.ً وكانت الدشم منتشرة في المكان مما يعيق تقدمنا. تجمّع عدد كبير من الأخوة في محاولة لإزالة العوائق الإسمنتية، وإذ بقذيفة حقد إسرائيلية تسقط على مقربة منا.. تفقدنا بعضنابعضاً.. لا إصابات. سألني محمد عبد المنعم دياب الذي كان يقود السيارة "ما العمل؟" أجبت سريعاً "لا عودة إلى الوراء، لا يوجد أمامنا خيار سوى التوجّه إلى الأمام". حاولنا فتح الطريق بأيدينا ولم نستطع إلاّ بعد وصول "جرّافة" للمقاومة أزالت الدشم من أمامنا فدخلنا القرية حيث وجدنا جمعاً كبيراً من الأهالي يستقبلنا على وقع الزغاريد ونثر الأرز والورود.
في ذلك اليوم، كانت العائلة في بيروت إلى جانب أختي التي كانت تصارع المرض. أما والدي فكان في القرية. لم يكن يعرف ما يجري.. وقف الى جانب الطريق يسأل المارة. أجابوه "شباب حزب الله أصبحوا في حولا". وصلت إلى حيث هو، وما إن رآني حتى أجهش بالبكاء.. مشهد كان يتكرر في كل قرية وبلدة. عناق وقبل وتبادل لمشاعر الفرح والسعادة حتى بين من لا يعرفون بعضهم البعض.
سجدت أمام المنزل شكراً لله. استأذنت والدي لأن عملاً كثيراً كان ينتظرنا. وصلنا إلى "بركة الحجر" وإذ بنا نلتقي بسائق أحد "الفانات" - أبو منير أيوب- الذي اعتاد نقل الركاب عند المعابر باتجاه قراهم خلال الاحتلال. أوقفنا ليسأل عما يجري. كان قادماً من معبر بيت ياحون - بنت جبيل، فأخبرناه أن لا معابر بعد اليوم.. الأرض عادت لأهلها. بدأنا بسَوق ما تبقى من العملاء وجمعناهم في منزل علي رشيد ذياب (أبو جهاد)، وقد تولى الإخوة المعنيون في المقاومة متابعة وضعهم.
بعد ذلك كان لا بد لي من أداء واجب وردّ بعض من حق الشهيد كامل حسين، فتوجهت لزيارة قبره وقراءة الفاتحة عن روحه الطاهرة.
ليلاً كان الطقس بارداً، توزعنا بين الحسينية والمسجد وبعض البيوت تحسباً لأي طارئ. في تلك الليلة المباركة تشرّفت باستضافة بعض الإخوة المجاهدين المعنيين بمتابعة مجريات التحرير. أحبّ والدي التعرّف اليهم والى طبيعة عملهم وقراهم، قطع الحديث صوت الانفجارات المدوية، أُربكنا قليلاً، فصدح صوت الجهاز يخبرنا: شباب المقاومة يفجرّون تحصينات ومواقع العدو الاسرائيلي وعملائه..
في صبيحة اليوم التالي، كان الإخوة يشرفون على تسلّم أسلحة وذخائر العدو والعملاء، بينما انطلقت برفقة محمد عبد المنعم ذياب ومحمد عبد الله مصطفى وسلامي حسن محمود إلى بلدة "العديسة" فبلدة "كفركلا" ثم بوابة العز والكرامة، بوابة الاستشهادي عبد الله عطوي، حيث تجلّت مظاهر الخزي والعار بترك العملاء سياراتهم منتشرة هناك عند هروبهم باتجاه الطرف الآخر من البوابة ليكلموا حياة من الذل الذي كان رفيقهم منذ قرروا التعاون مع الاحتلال.
وقفنا قليلاً نسرح أنظارنا إلى أقصى فلسطين.. ثم أكملنا الطريق إلى معتقل البطولة في الخيام، حيث كان أحد الإخوة المعتقلين يمتشق السلاح على البوابة الرئيسية ينتظر وصول الإخوة المجاهدين ليسلمهم الأمانة.
خمسة عشر عاماً مضت والمشهد كأنه بالأمس، لا تزال تضجّ به الذاكرة كلما حلّ الخامس والعشرون من أيار. مذاك وأنا أحمل في عقلي وقلبي ذكريات ذلك النهار التاريخي الذي شهد تحرير الجنوب. مذاك وأنا أحتفظ في خزانتي بالقميص الذي لبسته في ذلك اليوم، أزرق بلون السماء التي عادت لنا، كما التراب والهواء والشمس، فيما كان جنود الاحتلال يخرجون من برّنا، من بحرنا، من ملحنا، من قمحنا، من جرحنا ومن ذكريات الذاكرة.
*رئيس بلدية حولا السابق.