اشتد القصف على ضيعتي عيترون. ابي لا يأبه للصوت القادم من وراء المعصرة وتحليق الطيران الكثيف فوق رأسه. يريد ان يكمل غرس آخر غرسات البندورة في الحاكورة. امي تتوسل إليه ان يترك ما بيده ويرحل. فهو عسكري في الجيش. صوت بنات عمي رافق اشتداد القصف. ملأ الخوف والرعب قلوب الجميع. بعد مناوشات بالحديث بين ابي وامي قرر ابي ان يغادر بشرط أن يرافقه من في الدار جميعاً.
كنا نعتقد انها مسألة ايام وسنعود. القلق تغلغل في قلوب الجميع. غرسات ابي مازال بعضها ينتظر ليكمل زرعه والبعض الاخر المغروس بلا ماء يريوه. وامور كثيرة بالدار يجب العناية بها. الوقت بدأ يمر. رغم صغر سني كنت اشعر بألم نزوحنا قصراً عن ضيعتنا. وكان سؤالي دائماً متى العودة ؟! والجواب هو هو: التأفف ونفَس عميق. "العودة صعبة بسبب اليهود". لا اعرف ما معنى ذلك اصلاً، لكنني اصمت.
يوماً قررت العودة بنفسي دون أن ألتفت أو آبه لشيء. خططت لذلك جيداً، فخزان المياه في ضيعتي هو دليلي إليها، لاعتقادي أنه الوحيد في هذا الكون.
اعددت كيساً صغيراً. وضعت فيه قليلاً من الخبز واتنظرت حتى الصباح دون ان يراني أحد. مشيت وانا اراقب "الخزان " واحسب الخطوات. كلما اقتربت تخيلت اني اصبحت على مشارف الضيعهة. شعرت امي بغيابي فاعتقدت انه جلاى اختطافي. وبدأ البكاء وعملية البحث. أما انا فقد تعبت وارتميت على الارض ونظري نحو ذلك الخزان. بعد وقت من التأمل انتبهت للونه. فهو باهت لا يشبه خزان ضيعتي، وايضاً في جهة أخرى خزان آخر. استغربت وقلت في نفسي: في ضيعتي خزان واحد، فكيف اصبحا اثنين. شعرت بالخوف والقلق والحزن. إذاً، كما قال ابي: "عيترون بعيدة" ..
قررت العودة للدار. ومنذ ذلك الوقت وأنا أُعرف بـ"أم الخزان".
أجمل المشاهد بالنسبة لي حين اشارف الوصول إلى ضيعتي رؤيتتي للخزان. فهو يشعرني بالاطمئنان وبأن كل شيء بخير.
بوركت سواعد من اعاد لي الحلم الذي اضعته اعواماً.