"نحن لسنا فلسطينين حتى يعاملوننا هكذا". كانت تلك الجملة إحدى الجمل التي نطق بها أحد المتظاهرين من اليهود الأثيوبيين (الفلاشا) لمراسلة إحدى الفضائيات. بدا المشهد سيريالياً بحق، جنودٌ سابقون (وحاليون) من الجيش الصهيوني يتعرضون للضرب والعنف وحتى إطلاق النار (المطاطي والعادي) من قبل شرطته. كان المشهد يستحق القراءة أكثر من غيره من المشاهد. لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ كيف تحوّل جزءٌ من مكونات المجتمع العبري نفسه إلى "عدو" وفئة مضطهدة من قبل الدولة نفسها؛ خصوصاً إذا ما علمنا بأن أغلب هؤلاء "الفلاشا" قد خدموا في الجيش العبري وفي وحدات أساسية ومهمة فيه (كلواء جولاني مثالاً)؛ كما سقط كثيرٌ منهم قتلى كرمى عيون تلك الدولة الغاصبة.
من يقرأ الشأن العبري ويطالعه باستمرار يمكنه ملاحظة أن الدولة العبرية لم تعد هي نفسها التي كان "يبشر" بها مفكرو النشأة الصهاينة، فالكيان الذي يجمع شتات "اليهود" من حول العالم، ليس هو كذلك أبداً، والدولة التي يحميها جيشٌ لا يقهر لم تعد موجودة البتة. أما أكثر ما يخيف فهو بحسب افتتاحية جريدة "هآرتس" أمس هو ما قالته بالحرف الواحد حينما تحدثت عن احتجاجات اليهود الفلاشا ومعاملة المجتمع كما الشرطة لهم بطريقةٍ تخرج عن السيطرة، فتناولت ما حدث ولكن بعمق كبير: "الاحتجاج أوسع من ذلك ويكشف فقدان الأمل بالتغيير، بصورة أساسية لدى الشباب الذين ولدوا في إسرائيل وتعلموا فيها ويشعرون بمدى عدم استعداد المجتمع لتقبّلهم هنا". بدا كثيراً أن الموضوع ليس مجرد "حدثٍ" شارعي ومشكلة "مع أقلية". بدا أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير، فالمجتمع الصهيوني، كما يعرف جميع من يقترب منه ويقرأه، هو مجتمع عنصري بحت، تتم معاملة الفرد فيه تبعاً لكثيرٍ من الشؤون التي تصنّفه ضمن طبقات (ونحن هنا لا نتحدث أبداً عن العرب أو الفلسطينين فلأولئك تصنيفاتٌ أخرى): هل أمك يهودية أم والدك؟ هل أنت يهودي علماني أم يهودي متدين (حريديم)؟ هل أنت يهودي شرقي (سفرديم) أم غربي (أشكيناز)؟ هل أنت أبيض أم أسود (فلاشا)؟ كل هذه الأسئلة تحكم حركتك داخل المجتمع ذاته، فذو الأم اليهودية أعلى من مثيله ذي الأم (ذات الدين المختلف)، والحريديمي أعلى من العلماني، والأشكينازي أعلى، والأبيض كذلك.
تسعى وسائل إعلام العدو –التي هي أصلاً وسائل إعلامٍ لا ديمقراطية وموجهة بدقة- إلى إعطاء صورةٍ "وردية" عن المجتمع العبري أمام الخارج، لكن الداخل "بات يغلي" بحسب مقالة لأبيشاي عبري في معاريف قبل أيام يؤكد فيها أنَّ "الحريديين لا تهمهم مصالح الدولة بمقدار اهتمامهم بمصالحهم". هذا يؤدي حكماً لجعل المجتمع بأكمله قائماً على مصالح "الطوائف" والاتجاهات. لكن ماذا حدث حتى تصل الأمور إلى ما وصلت إليه؟ يشير كثيرون إلى أن فيديو* انتشر كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر رجال شرطة يعتدون على مجندٍ في الجيش العبري (من الفلاشا) كان الفاتحة لكل ما حدث، لكن ذلك لا يبرر "الغضبة" الكبيرة التي أبداها المواطنون الصهاينة من أصلٍ أثيوبي، إذ إن ردة الفعل بدت أكبر بكثير مما كانت متوقعة. تعود الأمور بالتأكيد إلى "الحقوق" المتناقصة يوماً بعد يوم والتي تسحبها الدولة العبرية من ذوي الأصول الأفريقية، إذ تعتبرهم (وبحسب تعبيرات كثيرٍ من حاخاماتٍ غربيين "أشكيناز) "أقل قيمةً" وخلقوا "لخدمة العرق الأسمى" (أي اليهودي الأبيض الغربي).
خرجت النقاشات في هذه القضية للعلن خصوصاً مع توافد يهود أوكرانيين إلى الكيان، فهم يوافقون المواصفات التي لا يمتلكها الفلاشا (يهود بيض أشكيناز). باختصار لا يبدو أن هذه القضية ستنتهي اليوم أو غداً، فكل ما سيحدث سيكون فاتحةً لأمور أكبر وأشد "خطراً" على الكيان العبري. وبحسب كلام آفي عتري على القناة العبرية الثانية: "إن إسرائيل تأكل نفسها من الداخل، وهذا هو أسوأ ما يمكن أن يحدث".
* الفيديو: https://www.youtube.com/watch?v=4uFutc3aW2A