"ملاك"... وكيف يمكن لكلمة أن تنال شرف الإحاطة باسمك؟ وكيف ينبغي لعقل أن يدرك معاني قدسيتك؟ وكيف يمكن لقلب أن يسمو إلى مظانِّ عشقك؟
شدَّ الرحال وتهيأ للسفر، وروحه المعلقة بأنوار العرش ترقص طربًا مستبشرة بالخروج إلى عالم الملكوت، وقلبه الواله يتطلع شوقًا إلى ساحاته القدسية... إلى جوار المصطفى وكنف سبطيه مقصده ومرماه.
أمنية لطالما ردَّدها وناجى ربّه بها، أن يلقى الله دون رأس مقطع الأوصال، علَّه يواسي سيد الشهداء الإمام الحسين(ع)، علَّه يستشعر لذة الألم بالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، علَّه يشفي صدره وصدور أحبائه من غطرسة العدو الصهيوني.
وفي الثاني والعشرين من نيسان 1995م، يقبض "صلاح" على يد رفيقة الدرب والجهاد، يستأذنها، ويودِّعها، ويوصيها بأبنائهما الثلاثة وبنفسها خيرًا... كانت تعلم يومذاك أنه مهاجر إلى بيت الله الحرام ليؤدي فريضة الحج، إلا أن كلماته أشعلت فيها غصة الوداع، وأيقظت فيها حقيقة حجه المبرور...
- تذكري يا رفيقة العمر أن زينب لم تبك أمام أحد، بل رفعت رأسها عزًّا وفخرًا ورضًا بما منَّ الله عليها من كرامة... وإني إن شاء الله سأقدِّم لك هدية رائعة
- وما تلك الهدية يا عديل الروح؟..
- هي شفاعة في الآخرة، وعهد أن لا أرضى غيرك حورية في الجنة..
ومع انبلاج الفجر رحل ميممًا وجهه شطر الجنوب، ألقى القربة والترحال ومضى...
كانت السيارة بانتظاره، جهَّزها له خيرة من على وجه البسيطة... في الطيري اجتمع الأخلَّاء الأحباء.
راني بزي واحد منهم، عمل على صنع العبوات المتفجرة وزرعها في السيارة المعدَّة للتفجير، و"دعمها" كما كان الإخوة يمازحونه...
خالد بزي أشرف وتابع أعمال الصيانة والتجهيز...
كلها أسماء تسابقت للشهادة، وألفت الحرب، واستأنست بالموت استئناس الطفل بمحالب أمه...
وبابتسامته مضى "ملاك". مضى تاركًا وصية معطرة بريح الجنة "الوفاء للمقاومة، ودماء الشهداء"، وقطعة من قميصه الورديِّ سقطت لحظة التفجير بين يدي الشهيد راني بزي الذي لم يكن بعيدًا عن مركز الـ "17" حيث نفَّذ صلاح عمليته الاستشهادية، عليها آثار دمائه الطاهرة وبشرى بأنك ستوافيني يا رفيق السلاح، طال الزمن أم قصر...