لطالما كانت المقاومة "للشجعان" فحسب، فهي أبداً لم تكن "للمستعرضين"، للذين يريدون رفع بندقياتهم واطلاق النار في الهواء، أو اللعب بها. كانت المقاومة، وما زالت للشجعان فحسب. فالمقاومة – في أصل الفعل - هي أن تقوم بوجه "سلطانٍ" جائر قوي، أشد قوة منك، يمتلك قوة عسكرية، وجيشاً طناناً ورناناً يستطيع إذا ما أمسك بك "طحن عظامك". من هنا كانت المقاومة فعلاً لا يعرفه إلا الشجعان ويهرب منه كل الباقين، لأنه ببساطة فعلٌ يختلف كل الاختلاف عن أي أمرٍ آخر.
المقاومة ليست فعلاً بسيطاً يمكنك أن تقوم به وأنت تشرب قهوتك وتطلب من "النادلة" في أحد المقاهي احضار فنجانٍ آخر، وحتى وإن فعل مقاومون هذا الأمر ذات مرة ٍ أمامك، فذلك لأنّهم يقضون بقية الوقت في فعلٍ آخر لا يقوم به آخرون. المقاومة هي أن تضع روحك على كفك، أن ترفع صوتك بوجه هذا الظلم، ألا تغير مبادئك وأن تميل كيفما المال قد مال. المقاومة فعلياً هي اختيارك لأمرٍ تتوقع –بديهياً- أنه "أخذك" بعيداً عن الطريق الذي يسلكه أغلب الناس. فالناس تخاف من المجهول، من العدو الأقوى، الأشد بأساً، أما المقاوم، فهو يعرف أنه كلما زاد بأس العدو، زاد بأسه، وكلما زادت وحشية العدو زادت صلابته، فالطريق لا يمكنه إلا أن يعبد بالدماء. يعرف المقاوم ذلك، ويدركه، بكل جوارحه يدركه، ويفهم تماماً أن كل ما يحدث وسيحدث معه "مرسومٌ بعنايةٍ إلهية".
وتقول الحكاية إن أحدهم كان يمشي مزهواً في قريته القريبة من مخيّم بلاطة. كان ذا عضلاتٍ بارزة، يتباهى بها في كل مكانٍ، حتى التقى أحد جيرانه الذين تبدو عليهم الهدأة والسماحة، فحاول بكل ما أوتي من قوةٍ أن يخلق نوعاً من إشكالٍ معه، كي يريه من هو "الزعيم". هنا، حاول ذاك المزهو إخبار ذاك "الشاب الهادئ" أن الحياة هي فقط للأقوياء. حاول الشاب الهادئ تجنب الخلاف والعراك مع الشاب الأقوى كثيراً، حاول تجنبه يوماً بعد يوم، والمزهو بقوته يزيد من وتيرة الشتائم والإهانات، وحتى التعرض له في الطريق. كان المزهو مغروراً بقوته، معتزاً بها، متأكداً أنه سيطحن عظام "خصمه" ذاك، لا بل إنه سيضربه ضرباً مبرحاً وستحكي القرية كلها عن "بطولاته" وأمجاده. وفعلاً بعد أيام حدث لقاءٌ عرضي بين الشابين، فما كان من المزهو إلا أن ضرب الشاب الهادئ، لطمه بيده على وجهه، فأوقعه أرضاً؛ فما كان من الشاب الهادئ إلا أن انسحب سريعا غائباً بين الحارات مبتعداً وبشكلٍ كلي عن المكان كي لا يسبب ضجةً تجعل الصهاينة وأذنابهم يحضرون إلى مكان الحادث على عادتهم. بقيت القصة اياماً تدور في جو القرية كيف ضُرب الشاب الهادئ، وكان الشاب المزهو يتباهى بقوته الهائلة، وبأنه يفعل ويفعل ويفعل حتى وصل صيته بأنه "قوي" للغاية إلى مسؤولٍ في الأمن الداخلي الصهيوني كان يعسكر في القرية، فما كان منه إلا أن أمر "زبانيته" بإحضار ذاك الفتى المزهو وعرض "العمالة" عليه من خلال إغرائه بزيادة قوته وجعله "أقوى أكثر وأكثر". رفض المزهو لأن العمالة شيء والزهو بالقوة أمرٌ آخر، فهو وإن كان "ضعيف العقل" فإنه لم يكن ضعيفاً إلى حد التحول إلى عميلٍ صهيوني. ضرب الصهاينة ذاك الشاب المزهو ضرباً مبرحاً حتى إنه لم يقوَ على الخروج من منزله لأيامٍ طويلة.
في تلك الأيام كانت ضربات المقاومة "الليلية" تتزايد حدتها في ارتفاع تجاه قوات الصهاينة وثكناتهم. كان الصهيوني لا يكاد يهنأ نهاراً في مكانه حتى تتحول غزةُ ليلاً إلى مقبرة لأولئك الغزاة القتلة. كان أشهر المقاومين في تلك الحقبة هو محمد الأسود أو كما كان لقبه غيفارا غزة. كان لغيفارا غزة ضباط امتلكوا شهرةً كبيرة شبيهة بشهرته، فكان "الملثوم" (أي الملثم) أحد أشهر منفذي عمليته، حيث نفذ الملثوم أكثر من خمسين عملية في أقل من شهرين (أي بمعدل عملية كل يوم تقريباً) وقتل عددا كبيراً من الصهاينة. لم يعرف الصهاينة هوية "الملثوم". كان كل ما يعرفونه عنه هو أنه شخصٌ "يرتدي حطةً فلسطينية" ويتحرك بسرعةٍ رهيبة. آنذاك كان الشاب المزهو بقوته، يتعافى من ضرب قوات الاحتلال. وفي ليلةٍ ماطرة شديدة الحلكة، قرر زيارة أحد أقاربه، فما كان منه إلا أن خرج، ليظهر أمامه مجموعةٌ من شباب المقاومة، كانوا يكتبون أحد شعارات المقاومة على الجدار. توقف في مكانه، فهو لا يريد أن يسبب لهم أو لنفسه أية مشكلة. وفجأة إذ بأحدهم يشاهده، فيقفز ناحيته بسرعةٍ بالغة، ويمسك بتلابيبه. حاول المزهو المقاومة، لكن قوة ذلك المقاوم، رغم حجمه الضئيل، كانت شديدةً للغاية، سائلاً إياه: شو عمل تعمل هون؟ فأخبره أنه كان يريد زيارة أحد أقاربه. لم يصدقه المقاوم البتة، إلى أن اقترب مقاومٍ ملثمٍ آخر منه أشار عليه بأن يتركه فهو لا يشكل خطراً. في تلك اللحظة حانت منه التفاتةٌ صوب المقاوم الذي عرف عنه، والتقت عيناهما إحداهما بالأخرى. عرف أنه يعرفه من قبل. عرف من يكون لكنه لم ينطق ببنت شفة؛ لربما خوفاً، أو لربما خجلاً.
مرت الأيام حتى وصل إلى مسمعه أن الشاب الهادئ الذي ضربه ذات يوم قد استشهد بعد إطلاق نارٍ متبادلٍ وكثيف مع قواتٍ صهيونية. ترك منزله، ترك كل شيءٍ خلفه، ونزل ليحمل النعش مع المشيعين. كان يعرف سراً لا يعرفه كثيرون، كان يعرف الملثوم، وقلةٌ فحسب كانت تعرف أن هذا الشاب الهادئ كان كل الحكاية؛ الحكاية كلها.