لا، ليس في العنوان لبس، مع أنَّ ما سنقوله لربما لن يكون "سراً" لا يعرفه إلا المقاومون؛ فالسر في هذا الأمر، ليس سراً بل هو "شعور"، والشعور لا يمكن أن يكون سراً طالما أنه خرج من القلب وبلغ الشفاه. يعرف كثيرون أن المقاومة فعلٌ جماعي، كهطل المطر، كنزوله، لكن على الرغم من رقته وضعفه، فإنه يغطي مساحاتٍ شاسعة من الأرض، هو عبر "مقاومته" الهادئة (إذا ما كنا نتحدث عن مطرٍ خفيفٍ ناعم بالتأكيد) يستطيع تبليل أراضٍ واسعةٍ عطشى ظمأة: من هنا تشبه المقاومة فعل المطر. إننا -والسر بينكم- كفعل المطر هذا، نأتي على عجلٍ ونرحل على عجل، لا وقت لنا ولا ننتظر. نعرف أن وقتنا هنا في هذه الدنيا قصير، لذلك نصرّ على أن يكون هذا الوقت "عجلاً" "خفيفاً" وفوق كل هذا "فيه أكثر الفائدة". نحن نعرف بدايةً أنه ليس كل من حمل سلاحاً، مقاوماً. وليس كل من ادعى الصفة: مقاوماً، كما أنَّ أي "دعيٍ" يرفع شعاراً مؤيداً للفعل المقاوم قادرٌ على إتيانه.
إن المقاومة شرفٌ لا يمكن ادعاؤه ساعةً وتركه ساعة. إن المقاومة فعلٌ متكامل مستمر، لا يمكنه التوقف إذا ما انقطع المصدر لأي سببٍ كان. في حصيلة التاريخ سقط كثيرٌ من أدعياء المقاومة عبر الوقت، وهذا أمرٌ يعرفه الجميع، سقطوا لأنهم لم يكونوا مقاومين حقيقيين، سقطوا لأنّهم لم يعرفوا أن المقاوم حتى وإن كان وحده ودون سلاحٍ ودون ذخيرة وحتى دون أي شيء يقاوم به: يظل مقاوماً، وتظل "روحه مقاومة" حتى اللحظات الأخيرة في حياته. إن المقاومة لا تنتهي أبداً بالنصر فحسب، بل إنها تبدأ بعد النصر ببناء الوطن والأرض التي يحتاج أهلها للمقاومين كي يكونوا ذخيرتها وذخيرتهم.
يخطئ كثيرٌ حين يعتقدون بأنَّ المقاومة فعلٌ "عسكري" و"عنيفٌ" بحت. هذا ليس أمراً حقيقياً بل إنّه ظالمٌ ومجحفٌ جداً. إن السر في المقاومة هو الفعل، والفعل ليس مرتبطاً بالعسكرة، كما إنه ليس مرتبطاً بالعنف. فالمقاومة الثقافية مقاومة، وليس فيها أي فعلٍ عنيف. والمقاومة عبر الموقف والقول هي أيضاً مقاومةٌ حقيقية ومكلفة في كثيرٍ من الأحيان أكثر حتى من المقاومة من خلال البندقية. والموقف كما القول ليس فيهما من العنف شيء. فالشيخ الشهيد راغب حرب حينما قال: "الموقف سلاح والمصافحة اعتراف" كان يحدد ضابطاً أساسياً في فعل المقاومة "اللاعنفية" "اللاعسكرية". إن "الموقف سلاح" هي علامةٌ مضيئة في هذا النوع من الفكر. وكان الشيخ الشهيد يعرف تماماً أن كلماتٍ كهذه وموقفاً كهذا سيكلفه الكثير لكنه لم يأبه ولم يهن. إن المقاومة "الواعية" يختارها "المقاوم الحق" كفعل "حق" لا أكثر ولا أقل. فالمقاوم حينما يحدد أن "موقفه" هو الأساس وعلى ذلك يبني فعله وردة فعله يعي تماماً أنه مهما حدث من أمور، فإن ما سيحدد كيفية تحركه هو ذلك "الموقف"، فلا يفرض السلاح والعسكرة "ضغطاً" فكرياً عليه بل بالعكس سيكون السلاح رافداً ومصدر قوة. كما أن المقاوم الأممي تشي جيفارا حينما يؤكد في كتابه حرب الغوار أنَّ المقاومة أصلاً تبدأ كفعلٍ قلبي عقلي متوازٍ وتنتهي كفعلٍ قلبي عقلي متوازٍ يضبط الفكرة في نفس الإطار. فالعقل والقلب هما السر خلف أي فعلٍ مقاوم. فالمقاوم يسقط كما ينجح إذا ما بقي قلبه وعقله في المكان الصائب فضلاً عن بوصلة المكان والزمان التي تحدد وتضبط وجهة البندقية بشكلٍ دقيق.
يرفع كثيرون بنادقهم بوجه احتلال بلادهم، ويرخونها حال خروجه، ليسقط كثير منهم ضحية عوزٍ أو حاجةٍ أو حتى رغباتٍ معينة فيمدون يدهم صوب من كانوا أعداءهم ليغرفوا من عطاياهم خيانةً وسوء نية. يسأل كثيرون كيف يحدث ذلك؟ كيف يمكن حدوث "مصيبةٍ" كهذه؟ الإجابة أكثر من بسيطة: لم يكن قلب هؤلاء وعقلهم مع المقاومة. لربما كان أصدقاؤهم مقاومين فجرّوهم إليها. لربما كان أهلهم مقاومين فورثوها عنهم. لربما حتى أنّهم كانوا مقاومين طمعاً في أمرٍ لم يحدث، أو حتى حدث ولم يجدوه كما اعتقدوا: كل هذا لا يجعل المرء مقاوماً، كل هذا لايجعل المرء إلا "سائحاً" في عالم المقاومة. إن المقاومة فعلٌ عقلي قلبي مستمر لا ينتهي أبداً، وهو سرٌّ يجهله كثيرون ولا يعرفه إلا المقاومون الحقيقيون.