رباب مرتضى
ماذا أقدم لك يا أمّاه هذا العام؟!...
جثا على ركبتيه تحت زيتونة قديمة بعد أن أضناه المسير، مرسلاً زفرات حرَّى من أعماق قلبه تنبئ عن ألم الفراق...
"هل أنا في المكان الصحيح؟" كلمات ردَّدها وهو يشم حفنة من تراب التقطها بيده...
ثلاثة أيام قطعها وهو يجوب تلك الأرض الطاهرة، يتلمس عطرها، يحنو على ترابها، يستنشق عبيرها، ويردد: "لن أفارقك بعد اليوم.. حتى يختلط دمي بترابك الزاكي".
لحظات تمر وعلي على حاله يترقب، علَّه يعرف أين هو بالتحديد، وإذ به يلمح فتاة لم تبلغ العاشرة من العمر تتنقل كالفراشة من زهرة إلى أخرى، فبادرها بالسؤال:
- من أين أتيتِ؟ وماذا تفعلين؟
- أنا "جميلة العديسة"، أتيت أجمع من ألوان الربيع باقة أقدمها لوالدتي غداً في عيد الأم.
- وما اسم هذه المنطقة؟
- إنها العديسة، مثلث العديسة – رب ثلاثين
"إنها هي، هي ذاتها ضالتي التي أبحث عنها... أعنّي يا مولاي يا صاحب الزمان...". شرود مزهوٌّ قاطعه سؤال جميلة:
- وأنت! ماذا تفعل هنا؟
- أنا أبحث عن هذه البقعة تحديداً، لأجمع باقة من الورود لأمي
ويقترب صوت هدير المجنزرات الإسرائيلية مع ارتفاع صوت نداء الحق، إنها ساعة اللقاء..
وفي أرض الطهر والقداسة ترتفع كفاه للوصال، وأيُّ وصال؟... بل أيُّ عروج؟... إلى ساحة الملكوت وموطن العشق الإلهي، كيف لا وهي الصلاة الأولى التي يؤديها "علي" في أرضه .... بل الأخيرة.
- "علي! علي! الهدف اقترب منك"، علا صوت المنادي
- "لـــــــمَ لـم تجبنا يا علي؟ هل غيرت رأيك؟" أعيد النداء
أتمَّ صلاته وأجاب:
- لم أغيِّر رأيي ولكني أؤدي الصلاة
- ولكن العقرب – العدو - قد ابتعد
- سيعود بإذن الله
- إنه يعود، لا تنسنا من الدعاء
ويعود "العقرب"، وترتجّ الأرض من هدير الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية، ولكن "جميلة" هناك، متسمرة في مكانها، وعيناها شاخصتان إليه.
- لَـــمَ لا تعودين إلى بيتك؟... هيا اذهبي بسرعة يا صغيرتي، وإذا يممت وجهك شطر روضة الشهداء في بيروت أقرئي أمي عني السلام وقولي لها: وصل عليٌّ إليك حاملاً الهدية.
ويعود إلى حلمه المنشود، فقد حان موعد اللقاء. إنها الرابعة وخمسون دقيقة، وعلي يقف بوجهه الملائكي، وقافلة الصهاينة تمر بجانبه دون أن يُسأل عن شخصه وعمَّن يكون، فكيف لصاحب هذه الطلعة البهية أن يكون "مخرِّباً"؟
وما هي إلا لحظات حتى تتحول كل خلية من جسد "علي أشمر" الطاهر حمماً تحصد القافلة ومن فيها، ولم يبقَ إلا يده اليمنى لتشهد تسليمه على صاحب الزمان (عج) لحظة العروج...
(في 20 آذار 1996، نفذ المجاهد علي اشمر عملية استشهادية ضد العدو الصهيوني عند مثلث العديسة رب ثلاثين، على مقربة من منزل «جميلة»).
(من قصة واقعية نقلت عن لسان والد الشهيد)