تختصر مدينة "بيسان" كل الحكايا. فإحدى أقدم المدن الفلسطينية (بعد أقدم مدينة في العالم أريحا) كانت قلب فلسطين النابض خلال سنين طوال. حتى إن العصابات الصهيونية الأولى كالهاجانا والشتيرن والبالماخ كان هدفها الأول الانقضاض على بيسان قبل غيرها من المدن الفلسطينية خصوصاً لأهميتها الجيوسياسية. كان الصهاينة يسعون وبشكلٍ واضح للوصول إلى "بيت شان" (أي معبد الآلهة أو بيتها) لتحقيق نبوءةٍ يعتقدونها توراتية، ولهذا السبب هجّروا جميع أهلها (وقتلوا من بقي) وهدموها بشكلٍ كاملٍ.
تقع مدينة بيسان شمال شرق العاصمة الفلسطينية القدس (تبعد عنها 127 كلم تقريباً)، وهي قلب مرج بيسان القريب من منطقة مرج ابن عامر، شرق مدينة الناصرة. تحدها من الشرق مدينة جنين، ومن الغرب مدينة أم قيس. تبعد بيسان عن مدينة نابلس 36 كلم، ومدينة جنين 33 كلم، ويأتي موقعها استراتيجياً وهاماً عسكرياً وتجارياً خصوصاً على الطريق بين مصر وبلاد الشام. تمتد المدينة على مساحة 733 كلم مربع. ولأن التاريخ هو الحكاية الأهم، ولدت مدينة بيسان في القرن 14 قبل الميلاد. وقد ذكرت كقرية صغيرة في الرسائل الفرعونية بين الفرعون وعماله على المناطق وتحولت إلى مدينةٍ ومركز إداري للمملكة الفرعونية آنذاك. أطلق عليها اليونانيون اسم سكيثولوبويس لأن هناك قبائل من السكتيين سكنت المنطقة. وقد كان السكتيون "رماة السهام" في جيش الإسكندر، فعرفت المدينة برماة سهامها المحترفين والمهرة، واستخدمتهم كل الجيوش التي احتاجت مقاتلين أشداء. وقد استخدم مقاتليها الفرعون تحوتمس الثالث (1501 – 1447 ق.م)، ورمسيس الثاني (1301 – 1224 ق.م). وقد كان كل هؤلاء يعتقدون بأن الجيش الذي يحوي رماةً سكتيين (أو من بيسان) سيفوز بالتأكيد. الأساطير تلك استمرت، حيث تقول إحدى الأساطير "التوراتية" بحسب المحتلين الصهاينة إن من يحتل المدينة يكتب له الهناء طوال العمر، وهي واحدة من خمس مدنٍ لا يمكن لأي حكم صهيوني/يهودي الاستمرار إذا ما خسرها (أيضاً بحسب الرواية ذاتها).
العصر الحديث والاحتلال:
منذ بداية الانتداب/الاحتلال البريطاني لفلسطين، كانت جهود الصهاينة تدور وتتمحور حول احتلال بيسان كواحدة من المدن الأساسية لتحقيق أسطورتهم، والمساعدة على تحقيق "النبوءة" الخاصة بها، ولكن هجومهم عليها اختلف عن غيرها من القرى. لقد هاجموها بشدةٍ وبعنفٍ، وكان هدفهم تشريد أهلها بعيداً عن معادلة "المجازر" المعتاد. إذ إن هدفهم كان عدم "سفك" كثيرٍ من دماءٍ في تلك القرية لأن فيها أكثر من "كنيس" يهودي "تراثي وأثري"، لذلك كانت العصابات الصهيونية حين هجومها تترك جانباً ولا تهاجم منه البتة محاولة أن تدفع سكان القرية إلى الهرب بعيداً عنها.
أضف إلى ذلك أن تدفق المهاجرين الصهاينة إلى المدينة كان أكبر بكثيرٍ من غيرها إذ إن إحصاءً جرى في العام 1948 أكد أن عدد الصهاينة المهاجرين إلى بيسان وحدها بلغ قرابة 13500 مهاجر. كان هؤلاء المهاجرون يبدؤون بعمليات بناء لمستوطنات وبيوت بشكلٍ عشوائي على أي أراضٍ لا يملكها أحد (مشاع) وبالتأكيد تحت حماية عصاباتهم أو القوات الإنكليزية القريبة من المنطقة. لقد كان التحضير كبيراً لتهجير أهالي المدينة وبشكلٍ كلي (حتى ما قبل الهجوم العسكري)، وخصوصاً الشخصيات التي تمتلك قيمةً معنوية، فخسرت المدينة ثقلها الجغرافي سريعاً خصوصاً لشدة محاولات الضغط على سكانها وأرزاقهم. لكن ومع هذا فإن سكان القرية صمدوا وقاوموا (ولو سلمياً عند البداية) كل تلك المحاولات. ومن بيسان تحديداً نشأت الأغنية الشهيرة التي تندد بمن يبيع أرضه لأحد (عواد باع أرضه يا ولاد – شوفوا طوله وعرضه يا ولاد).
حاول سكان القرية أن يقاوموا هجوم العصابات الصهيونية قبل وصول ما سُمي بجيش "الإنقاذ" العربي، واستطاعوا الحصول على 10 بندقيات مارتيني ورشاش برنغن (الإنكليزية)، وكان عدد المقاتلين حوالي الخمسين. وبقي هؤلاء المقاتلون الأشداء يقاومون لأكثر من سبع ليالٍ كاملة، واستشهد معظمهم حتى وصول جيش الإنقاذ الذي أجلى معظم العائلات الباقية في المدينة تحت حجةٍ "مخيفة" هي أنهم سيعيدونهم إليها بعد 10 أيامٍ بالضبط، حتى إن بعض العوائل لم يأخذ أكثر من حاجيات "عشرة أيام". ولكن العشرة أيامٍ طالت وامتدت حتى يومنا هذا، وفشل جيش الإنقاذ في إعادة شبرٍ واحدٍ من الأرض السليبة. وفور احتلال المدينة شرعت تلك العصابات التي تحولت فيما بعد إلى ألوية في جيش الاحتلال الصهيوني بهدم المدينة بشكلٍ كامل، وبنت مدينةً جديدةً فوقها وأسمتها "بيت شعان" العام 1949.